كانت تلك الكلمة ضبابية المعنى في ذهني مرتبطة بالفقد والألم، أول من نطقها أمامي كانت شفاه أبي في جلساته التي لا تنتهي عن تفاصيل غربته في شبابه، نُقلب الصور القديمة ونمر بها كمحطات ذكريات؛ حيث أرسم نفسي بين إخوتي وأخواتي، حتى إنني اصنع لنفسي مشاهد في تلك الذكريات، رغم أنني لم ولن أعيشها معهم، أسترق من إخوتي ذكرياتٍ ليست ملكاً لي، ويتوسط تلك الضحكات وتبادل الذكريات في صالة المنزل نظرةٌ من أعين والدي الهرمة تروي ألف حكاية من حكايات التعب والوحدة التي عاصرها والدي، ولم تقصها تلك الصور المتناثرة بين أيدي إخوتي وأخواتي، وأمي على الجهة الأخرى كأنها تقرأ أعين أبي، فهي قد عاشت تلك اللحظات معه، بل شاطرته كل الألم المحمل بها.
اقتربتُ من والدي يدٌ على كتفه وسألته بصوتي الطفولي: ما بك يا والدي؟
أجاب بصوت عميق: "ليست سهلة، تأخذ الصحة وتبدد الشباب"، وهمس لي: حذار منها يا ولدي، وَقْع كلامه أخافني منها لدرجة أنني أصبحت أخشاها ولا أطلبها في أمنيات ما قبل النوم، وبقيت كلمات أبي تتردد على مسامعي كل مساءٍ يحدثني فيه كيف أنه اشتاق لجدي ومات شوقاً لبيته القديم، واشتاق لخبز جدتي وقهوتها، فأصبحت أتجنب ذكر تلك السنين أمام والدي، وكبرت عاماً بعد عامٍ وأنا أعلم أنني باقٍ هنا متمسكٌ بكلام والدي أن لا أستسلم للرحيل.
بلغت الثانية والعشرين من عمري في أكتوبر/تشرين الأول عام 2015 الماضي وحينها بدأت أسوار موطني تضيق شيئاً فشيئاً، وفي الشهر ذاته جاءتني موافقةٌ العمل خارجاً كان الكل مباركاً لي، إلا أبي فهو الشخص الوحيد الذي كان خائفاً علي من نفسي، فهو يعلم ما أنا مقدمٌ عليه؛ لما يعلمه، ماذا تعني أن تستيقظ في غرفة خاوية الأنفاس في بيت لا تجمعك ذكرى واحدة مع أحد جدرانه، وأن تتعايش مع فكرة أن هذه الحياة التي اختارتك و لست أنت من اخترتها.
السابع عشر من شهر فبراير/شباط عام 2016 جاء موعدُ الرحيل، ودعت أمي للمرة الأولى وعانقتها حتى ابتلت أكتافي من دموعها، فابنها الصغير سيغادر أسوار بيتها، ولن يعود مدللها بعد الآن، وقبلت يد أبي وهي ترتجف للمرة الأولى، فما عهدت منه سوى القوة، وأخواتي أولئك الملائكة اللواتي إذا ما مسحن على جرحي بأناملهن أزهر ياسمين، يودعن مدللهن وحافظ أسرارهن، حملت حقائبي متجهاً للمركبة وسلاسل الحنين تشدني للخلف، مانعاً عيني من النظر إلى الوراء؛ لأنني كنت أعلم إذا غافلتني عيناي لوداع أخير ستخور قدماي وتنصهر مع عتبات منزلي، أغمضت عيني ومسحت دمعي وأغلقت باب المركبة، وقادني أخي للمطار بمسير ساعة ونصف لم تنطق شفتاي بكلمةٍ واحدة مع أنني أشتهر بكثرة الكلام.
وصلت للمطار، صافحت يد أخي الأكبر وودعته قائلاً: "أستودعك أهلي"، صوت المكبر في ساحات المطار ينادي: "الرحلة المتجهة للرياض رقم 749 التوجه للبوابة 13″، صعدت إلى الطائرة، الكل ينظر ويبتسم وأنا أنظر لتلك النافذة التي تطل على عتبات وطني، أردت الهروب والرجوع لحضن أمي باكياً أنني لن أكرر هذه الفعلة مرة أخرى، أقلعت الطائرة وأنا أسمع صوت أبي مردداً لي هامساً: "الغربة يا بني مرضٌ ينتقل بالوراثة" هذه غربتي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.