نعم، كان دائماً يتحايل على نفسه، وعلى والدته السيدة الأربعينية إسراء السيد، عندما كان يجيبها عن سؤالها المعتاد عن صحته وأحواله النفسية، بعد مروره بتجربة مريرة؛ تجرع مرارة آلامها، التي هي أشد قسوة وعنفواناً من الآلام العضوية، بأنه (بخير وعلى ما يرام).
مما لا شكَّ فيه أن كريم موسى كان يعلم جيداً لماذا يقول لنفسه إنه (بخير وعلى ما يرام)، تلك العبارة المعسولة التي تعتبر بالنسبة له بمثابة كبسولة مسكن، لألم من آلام الجسد، الذي تنتابه موجات المرض من جديد، بعد انتهاء مفعولها.
ولكن في حقيقة الأمر، لا يعلم لماذا كان يخبر والدته بأنه (بخير وعلى ما يرام)، ودائماً ما كانت الإجابة على هذا السؤال تشغله تارةً وتحيره تارةً أخرى، هل يرجع السبب إلى رغبته في تفادي تساؤلاتها التي لا مناص منها سوى هذه الإجابة؟ أم لأنه يعتقد أن والدته تتحمل جزءاً من آلامه التي يتجشمها، أم هذا من باب التحايل بالفعل، أم لأنه لا يريد أن يقلقها عليه؛ نظراً لحبه الشديد لها وعلاقته الوثيقة بها التي هي فوق العادة، والتي تعتبر علاقته بها مميزة عن والده الخمسيني، والعامل بإحدى شركات القطاع الخاص، السيد موسى إبراهيم، وأختيه (فاطمة وأسماء).
وأثناء ما كان كريم يغطّ في نوبة سرحانه، فاق من هذه النوبة على صوت العم صلاح، المشرف على المقهى، أثناء جلوسه على أحد مقاعد مقهى نيوكريستال، هذا المقهى المحبب إلى قلبه، والذي تعرّف عليه بواسطة زين وهو أحد أصفيائه، وسأله عن مشروبه، فأجابه بأنه يريد مشروب القهوة الزيادة.
وبعد مغادرة العم صلاح، لتحضير مشروب كريم، انصرف ذهن كريم مرة أخرى للتفكير في تجربته التي مرّ بها، والتي أضفت عليه ملامح شخص مقطّب الوجه، فظّ القلب في تعاملاته مع أقرب الناس إليه، وهي والدته السيدة إسراء السيدة، وكان على كريم لكي يستطيع معالجتها من أن يتحصل على أسبابها؛ لذلك كان عليه أن يسترجع أحداثها بصورة موجزة.
وسرعان ما تسلسلت أحداث المشكلة في ذهنه بتسلسلها السديد، وبدأت المشكلة بعد خروجه من كنف أسرته بمبادئ إنسانية أرستها والدته في فؤاده قبل عقله، إبان بداية العام الدراسي الأول له في الجامعة، وهنا جاءت الصدمات واحدةً تلو الأخرى، فها هو كريم موسى الذي يحاول أن يتملص من مثالب الطبيعة البشرية بقدر الإمكان، ويناجي دائماً ربه في صلاته بأن يرزقه القلب الطيب الطاهر السليم من الرياء والحقد والحسد والكراهية والمصلحة ويرزقه بصفاء النية في التعامل مع أقرانه من البشر.
انزلق في خانات مصبوغة بالضغائن والميكافيلية والكراهية والنذالة والنفاق، فهنا صديق يحاول بشتى الطرق أن يتقرب من كريم لأجل قضاء مصلحة، وهنا آخر يبتعد عن كريم ويتجنب التعامل معه؛ لأن المصلحة التي كان يريد قضاءها من كريم استطاع أن يتحصل عليها من مكان آخر، وهنا زملاء يسخرون من كريم؛ لأنه له رؤى مختلفة في الحياة، يمتلك رسالة تمنّاها من ينبوع قلبه أن تكون رسالة صائبة خالية من الرياء والاصطناع والبراغماتية، وهنا أقرب الناس إليه وهو الأب، يسخر من كريم وأحلامه وطموحاته، ودائماً يحثه على التملق إذا اقتضت المصلحة ذلك، ويحثه إلى الرجوع عن أحلامه وطموحاته الطوباوية والسريالية؛ لأنها ما هي إلا أوهام، وأن لا يحلق بها بمنطاده بعيداً؛ حتى لا يهوى في هوّة سحيقة من الفشل الذريع، الذي يكون في الغالب غاية الكارهين للتشفّي والنكاية فيه.
كانت هذه الصدمات كفيلة بأن تصيب كريم موسى بالجزع والقنوط، الذي حاول مراراً مواراته بابتسامة مصطنعة أمام والدته، ولكن بإلحاحها عليه في ذي مرة رد عليها بملامح جامدة: أأنتِ التي تسألينني الآن عن أحوالي الصحية والنفسية؟ أنتِ جزء من همومي التي أتكبدها الآن، أنتِ التي خدعتيني بمبادئ لا تمتّ للواقع بصلة، أنتِ دائماً ما رسختِ في قلبي قبل عقلي أن أعتز بنفسي ولا أتملق أحداً قط حتى ولو كان بيده مصيري، أنتِ التي جعلتيني أنهار من البكاء وقلبي يئنّ من الحزن عندما أشعر أن هناك شخصاً ما حدث له ضرر له بسببي حتى ولو كان هذا الضرر معنوياً، حتى ولو كنت أنا المجنيّ عليه، أنتِ التي جعلتيني أسامح في حقي، أنتِ من ساهمتِ في بناء جزء من أحلامي التي تتمثل في رسالة محبة وسلام وعدل وتسامح يعمّ العالم كافة، أنتِ من جعلتيني أحلّق بطموحاتي في سماء واحة السلام.
وهنا أستوقفته والدته وعيناها مغرورقتان بالدموع: أتلومني يا فلذة كبدي؛ لأنني حاولت بقدر الإمكان أن أجعلك إنساناً يتمتع ببعض من الأخلاقيات النبيلة المتمحورة حول احترام الآخر!
وهنا أردفت حديثها: يا ولدي لا تتعامل بأخلاقيات المجتمع، تعامل بأخلاقياتك أنت، ولا تنظر لمساوئه بل انظر لمميزاته، ولا تنتظر نظيراً أو مقابلاً لفعل طيب أو خير تفعله لشخص آخر، ولا تشغل نفسك بمقاييس نجاح المجتمع التي تتبلور في المال والسلطة، فالناجحون هم مَن يرون ما لا يراه الآخرون، لا تشكِ، ولا تلُم، ولا تقارن نفسك بالآخرين؛ لأنها جميعها أرزاق موزعة بعدالة السماء، ولا تحزن، ولا تقسُ على والدك؛ لأنه تربية المجتمع، واجتهد، وثابر، وتصالح مع الماضي، وتعلم من إخفاقاته، إن الله معك.
وهنا نزلت هذه الكلمات البسيطة من والدته على قلبه بالسكينة والاطمئنان، وأخذ كريم موسى يردد في نفسه: لن أحزن، ولن أشكي، ولن ألوم الآخرين إن الله معي.
يبدو أن هذه الكلمات البسيطة، التي يفكر فيها كريم المفعمة بالإيمان، وبالمحبة، والسلام، والتحدي، والإيمان بالله، تجاوزت حدود تفكيره إلى التلفظ بها، وهنا وجد كريم العم صلاح ينظر إليه بابتسامة رقيقة وصافية، وهو يقول لكريم: لا تحزن، ولا تشكِ، ولا تلم، ولا تقارن نفسك بالآخرين، إن الله معك، فردَّ كريم عليه بابتسامه صافية هو الآخر أثناء مغادرته المقهى بعد انتهائه من مشروبه المحبب لديه، ثم استطرد العم صلاح حديثه: سأنتظرك من جديد في مقهى نيوكريستال.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.