كيف تحوّل كوب الشاي إلى وطن!

هل حقاً أجد الوطن أحياناً بهذه البساطة في بضع لقيمات؟ هل يمكننا اختصاره هكذا بكل بساطة؟ ربما لا، ولكن لسبب ما شيء منه يبقى في تلك الروائح والطعوم، شيء منه يأتينا معها، وشيء منّا يبقى معه

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/18 الساعة 05:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/18 الساعة 05:45 بتوقيت غرينتش

منذ 3 سنوات تقريباً انتقلت وعائلتي لأول مرة إلى بلد أجنبي، تأخذك للوهلة الأولى رغبة الاكتشاف والتعود والتآلف مع كل شيء، تريد أن تخلق لنفسك مكاناً يمكنك أن تسميه بيتاً عائلياً، وعادات جديدة، تحاول أن تخلق بعض الذكريات الجديدة في كل فرصة، تلتقط الكثير من الصور وتضع خططاً للمستقبل. ثم شيئاً فشيئاً تبدأ غربة المكان والروائح والأصوات تسيطر على المشهد.

يبدأ عقلك بالاعتراف بأنه في محيط مختلف، وتجد نفسك تبحث عن كل مألوف عرفته وتعقد مقارنات بأماكن عرفتها أو روائح اعتدها، تستيقظ يوماً على صوت أغنية شعبية قديمة أو تمر بجانبك سيارة يصدح منها صوت المسجل عالياً بلحن لفيروز، تغفل للحظة وتظن أنك تتخيل، ولكنك تكتشف أنك لست في القطب الشمالي! أنت في بلاد هي عبارة أم مجموع بشري من المغتربين، ممن تعرف وممن لا تعرف، ممن يتحدثون بلسانك وممن لا يشبهون ملامحك. تكتشف أنك لست وحدك في هذه البعة من العالم، لست الغريب الوحيد، ولا الجديد الوحيد.

مؤخراً اشتركت في مجموعة للسيدات في المدينة التي أقيم بها على الفيسبوك، يتحدثن كثيراً عن طعام بلدنا، والأطباق التي تذكرنا بالأهل، الخبز العراقي، والمنسف الأردني، والمسخن الفلسطيني، والكبة اللبنانية، والشيشبرك السوري، والحريرة المغربية، ومندي والمظبي والمجبوس، والكنافة والعوامات والقزحة والوربات. أتأمل هذا السلوك، أتأمل نفسي وفرحها في أول مرة أكلت فيها مناقيش الزعتر بعد مجيئي، تذكرت أبي والمناقيش التي كان يشتريها لنا دون مناسبة.

المرة الأولى التي أكلت فيها الكنافة النابلسية، تذكرت أبي مجدداً ومفاجآت أطباق الكنافة الساخنة والجبنة السائحة، وتذكرت المرة التي بحث فيها زوجي لي عن مكان يصنعها في مصر لشدة ما ذكرتها أمامه. المرة الأولى التي خبزت فيها فطائر السبانخ كما كانت تفعل أمي، والمرة الأولى التي أعددت فيها طبق الملوخية والبامية بعد أن تعرفنا على محلات السمانة العربية، والمرة الأولى التي صنعت فيها المسخن منذ تزوجت. استغربت أنني انتظرت حتى آتي إلى آخر العالم حتى أعده، قلت ربما هي الغربة تدفعنا إلى ما نألف.

هل حقاً أجد الوطن أحياناً بهذه البساطة في بضع لقيمات؟ هل يمكننا اختصاره هكذا بكل بساطة؟ ربما لا، ولكن لسبب ما شيء منه يبقى في تلك الروائح والطعوم، شيء منه يأتينا معها، وشيء منّا يبقى معه

أقرأ قليلاً عن فلسفة الطعام، شيئاً فشيئاً تكتشف أن الأمر لا يتعلق بالشهية أو بالجوع أو الطفاسة. تكتشف أن إعداد الطعام وتناوله لطالما كان ممارسة مجتمعية، تبنى حولها العلاقات بين العائلات والمجتمعات، وأن الطعام مهما كان بسيطاً يشكل جزءاً مهماً من تركيب ذكرياتنا وشخصياتنا. تلك الوجبات العائلية والأطباق الكبيرة التي تتشاركها الأسر، الصينية التي تضم أطباق الزعتر والجبن والزيتون والزيت والفول والفلافل والبيض واليخنة وغيرها مما هو متوفر، نسميها "حواضر". أفكر مرة أخرى، لماذا كل هذا الوزن للقيمات نتناولها؟ ربما لأن تناول الطعام أمر تتداخل فيه كل حواسنا لتصنع ذكريات لا نعرف أنها موجودة إلى عندما نفتقد وجودها، نحن نشم ونرى ونتذوق ونسمع ونتكلم ونلمس، نتناول الطعام ونتكلم ونحكي ونتشاجر ونتناقش ونشاهد ونستمع وربما نفكر، ليس الأمر مجرد أفواه تُملأ..

منذ تزوجت لسبب ما أصبحت أفعل ما كنت أعتقده مضيعة للوقت سابقاً، أخبز وأصنع الكعك، وأسترجع وصفات قديمة، وأجرب وصفات جديدة، أستمتع برؤية ردود فعل عائلتي على الطعام، أسعد وأنا أرى صغيرتي تكبران وأنا أحاول بشدة أن أتأكد من أنهما تأكلان ما ينبغي. أعيد التفكير في جمل لطالما رددتها، هو مجرد طعام.. نعم هو مجرد طعام لا ينبغي أن يستهلك من أعمارنا وصحاتنا، هو مجرد طعام عندما بعلق الأمر بقيمته المادية البحتة، ولكنه أحياناً يحل محل ما نألف وما نعرف، يدفئنا ويسند قليلاً من غربتنا. يذكرنا بالأمهات والآباء، بالإخوة والأخوات، بالعائلة التي كانت، ويرسم لنا ذكريات العائلة التي نحن فيها الآن والتي ستكون من بعدنا.

هناك شيء ما يبقى معنا في الطعام غير البطون الشَّبِعة. هناك تاريخ طويل من حياة أناس عاشوا قبلنا كان هذا الطعام أيضاً جزءاً من حياتهم، من طبيعتهم، من أرضهم ومائهم، من ظروفهم الصعبة أو الرغيدة، من فقرهم ومن غناهم. لذلك يغيظني كثيراً استهزاء أجيال جديدة منّا بطعام أهلنا، والتعامل معه على أنه طعام انتهت صلاحيته، طعام لا ينبغي أكله لأن الظروف التي صنعته لم تعد موجودة. فيما نجد غيرنا كالكيان الصهيوني يحاول جاهداً أن يسرق حقوق ملكية واختراع طبق من الحمص أو قرص من الفلافل.

أبحث بأجد كتب لوصفات طعام تحت عناوين مثل: "فلسطين على طبق"، "اطبخ من أجل سوريا"، "حكايات الزعفران، وصفات من المطبخ الفارسي"، "حساء من أجل سوريا"، "طعام عُمان، وصفات وحكايات من بوابة العرب"، والكثير غيرها، تتحدث عن الحكايات، تحكي قصص أوطان بوصفات طعام، تضع الوطن على طبق من الفخار تملؤه هضبة من الكسكسي، تكللها أكوام الخضار واللحم. يتحول كتاب الوصفات لأطلس جغرافيا يحدثك عن كل منطقة، وطعام أهلها، وطبيعتها، يقول لك هذه وصفة من القرية الفلانية التي اعتاد أهلها تناولها في شتاءاتهم الباردة، أو تلك المدينة الساحلية التي يعدون فيها السمك بعشرين طريقة مختلفة، أو تلك التي غلبتها الصحراء فعلمت أهلها كيف يعيشون على أقل القليل.

يتحول كتاب الوصفات إلى كتاب تاريخ ثم إلى كتاب في العلوم.. لا أحب كتب الوصفات التي تضع لك الطعام في قوائم، جافة جامدة، ليس فيها حياة. هناك كتب تحكي عن الطعام وطرق طبخه وتحكي معه قصص أناس وطباعهم، عن أيامهم وسنينهم، تحكي بلا كلمات، وبلا عبارات.

في هذه الأيام غالباً ما ألجأ لطبق من الزيت والزعتر وكوب من الشاي، تلك الثنائية البسيطة التي تجعلك تشعر أنك جزء من مجموع بشري، عائلتي الصغيرة والكبيرة والتي تقع خارج الحدود المعروفة، طبق من الزعتر والزيت أتشاركه مع ابنتي أحياناً اللتين عرفتا بصورة ما التقليد الفلسطيني في تناول كميات كبيرة من هذا الخليط المحبب.

أنظر أليهما وأستغرب هذا الإقبال على طعم لا يحبه كل الأطفال، زيت الزيتون الأخضر المرّ وخليط الزعتر الحامض، أقول ربما أصبح الأمر يورث كما لون الشعر وملامح الوجه. هل حقاً أجد الوطن أحياناً بهذه البساطة في بضع لقيمات؟ هل يمكننا اختصاره هكذا بكل بساطة؟ ربما لا، ولكن لسبب ما شيء منه يبقى في تلك الروائح والطعوم، شيء منه يأتينا معها، وشيء منّا يبقى معه..

هذه التدوينة منشورة على موقع مدونات الجزيرة

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد