هذه الأنواع من القيود، بطبيعة الحال، ذات أهمية كبيرة، ولا بد لنا من الوقوف عندها، ولا سيما أننا كثيراً ما نخفق في القيام بذلك، سواء كانت تلك التهديدات ناشئة عن الجماعات الإسلامية أو القيود المفروضة من الدولة المشؤومة، ولكننا على الأقل نعترف بتصويرها على أنها قيود، ومع ذلك، فقد تطور على مدى العقود القليلة الماضية نوع جديد من الرقابة أكثر غدراً؛ لأنه لا يتم تصويره كمصادرة لحرية لتعبير.
لقد أمضيت الكثير من الوقت في المناقشة، والدفاع عن حرية التعبير، ووجدت أن واحداً من الأمور المثيرة السخرية في ذلك، هو أن قلة من الناس على استعدادٍ للقول إنها ضد حرية التعبير وإنها تعتقد أن الرقابة جيدة.
هكذا شهدنا نمو أنظمة الحظر ضد "خطاب الهجوم" وانتشار التحذيرات والحملات ضده.
ومع ذلك، فإن المأزق أكثر عمقاً من اللوائح الرسمية أو المحظورات؛ فالمشكلة الحقيقية هي أننا استوعبنا تلك المحظورات، لقد وصلنا إلى قبول الرقابة ليس فقط بالقيود الخارجية، ولكن أيضاً الداخلية، أصبنا بالرعب الأخلاقي خشية الإساءة للآخرين.
الرقابة الذاتية، هي شيء نخوضه جميعاً إلى حد ما. ومن دون تحرُّر مستمر، لن يكون ممكناً التفكير المتسق، ولا المحادثة الصريحة العقلانية.
ومع ذلك، فإن ما أتحدث عنه هنا ليس شكلاً من تحرير الذات التي تجعل التفكير والتحدث ممكناً؛ بل هو الرقابة السياسية التي تمثلُ شكلاً من أشكال التحرر الذاتي اللازم للتفكير والمحادثة.
على مدى جزء كبير من نصف الألفية الماضية، من "آريوباجيتيكا" لجون ميلتون إلى رسالة جون لوك حول التسامح، كان يُنظر إلى حرية التعبير على أنها ضرورة.
يقول جون ميلتون: "ما فائدة أن تكون رجلاً، لا مجرد تلميذ؛ إذ كنا هربنا عن الدرّة أو العصا لنقع تحت نير الرخصة، إن الحكومات ومراقبيها ليسوا معصومين من الخطأ، فليس لهم أن يفرضوا ما يروق لهم أو ما يفضلونه من آراء ومبادئ على الناس، والأولى أن يتركوا الناس ليختاروا ويتعلموا، حتى ولو كلفتهم التجربة والخطأ أبهظ الثمن. إني لا أستطيع أن أمتدح فضيلة مفروضة عليها الرقابة، لا يمارسها ولا يستنشق عبيرها أحد، لا تنطلق قط لترى خصومها؛ بل تتسلل بمعزل عن الناس".
ويضيف ميلتون: "أعطني الحرية لأعرف وأتحدث وأناقش، بلا قيد، وفقاً لما يمليه الضمير، فهي التي تفوق كل الحريات، ومع أن كل رياح المذاهب والمبادئ أطلقت لتهب على الأرض، حتى إذا دخلت الحقيقة إلى الميدان، أسأنا إليها بالرقابة والحظر، لنشكك في قوتها، فلنتركها مع البهتان يتصارعان، فمن ذا الذي رأى يوماً أن الحقيقة تُهزم في معركة حرة مفتوحة؟".
أو كما قال الكاتب الحقوقي فريدريك دوغلاس في "نداء من أجل حرية التعبير في بوسطن"، وهو خطاب ألقاه في عام 1860: "الحرية لا معنى لها، حيث لم يعد الحق في نطق الأفكار والآراء موجوداً، من كل الحقوق هذا الذي فزع الطغاة. هذا هو الحق الأول، وقبل كل شيء، هم يعرفون قوته، ومن المؤكد أن العروش والسيادات، التي تأسست بالظلم، ترتعش، إذا سُمح للرجل بأن يبِرَ عقله، لا يمكن له أن يتحمل العبودية بحرية التعبير".
وكانت جميع السياقات السياسية التقدمية التي ظهرت خلال هذه الفترة متمسكة بمبدأ حرية التعبير، وقد قبل الجميع أن الكلام هو خير أصيل، فإن تمدده الكامل شرطٌ ضروري لتوضيح الحقيقة، والتعبير عن الاستقلال الأخلاقي، والحفاظ على التقدم الاجتماعي، وتطوير الحريات الأخرى.
إن ما تعبر عنه حرية التعبير إنما يمثل تحدياً لفكرة التعبير الحر هذه باعتبارها خياراً جوهرياً. ومن المرجح أن يُنظر إلى حرية التعبير على أنها تهديد للحرية كدرع لها، وبحكم طبيعتها، يجادلون بأن الخطاب يضر بالحريات الأساسية، فالكلام يحض على الكراهية ويقوض حرية العيش في مأمن من الخوف.
إن إضفاء الجرم يُقلل من حرية الاعتراف بالمعتقدات والقيم واحترامها؛ ولذلك يجب أن يكون الكلام مقيَّداً بالعرف، خاصة في مجتمع متنوع مع مجموعة متنوعة من الآراء والمعتقدات العميقة، ويجب أن تصبح الرقابة (والرقابة الذاتية) هي القاعدة.
في الواقع، أصبح يُنظر إلى الرقابة على أنها أوسع من القاعدة. أصبحت الرقابة رقابة فعلية، ووسيلة لحماية الناس، وتحدي السلطة.
وتقول إن القيود المفروضة على خطاب الكراهية تحمي أولئك الذين يواجهون العنصرية، والقيود المفروضة على الكلام المسيء تحمي كرامة المجموعات التي لا قوة لها.
كما أن المناصرين التقليديين لحرية التعبير، رسموا الخطوط في نقاط مختلفة، ونادراً ما اتبعوا موقفاً مبدئياً من حرية التعبير.
تتعلق القيود بمسألة الضرر. وقد قبل معظم مناصري حرية التعبير أنه يمكن للكلام أن يؤدّي إلى إلحاق الأذى؛ ومن ثم يجب تقييده.
وقد ذكر السياسيون وصانعو السياسات، على مر السنين، أن الأذى سبب للحد من الكلام، مستخدمين عبارات كالتهديد للأمن القومي، والتحريض على العنف، وتعزيز التجديف والإلحاد، وتقويض الأخلاق، أو القذف والتشهير.
ومع ذلك، كان هناك الرأي العادل بأن الخطاب هو خير متأصل؛ واعتُبرت القيود -مهما كانت- خادعة ومضللة ومستترة، استثناء لا قاعدة.
أما الفئة الثانية من القيود، فيمكن وصفها بأنها "نفاق"، فالقيود التي يدافع عنها دعاة حرية التعبير التي بزغت في وجه الاحتجاج المنطقي لأهمية حرية التعبير.
على سبيل المثال، قد يكون ميلتون قد أصّر على أن "الحرية في المعرفة، والكلام، وفقاً للضمير"كانت أكثر أهمية من جميع الحريات الأخرى. لكنه لم يكن حريصاً على أن يمتد هذا إلى الكاثوليك على الأساس القائل إن الكنيسة الكاثوليكية كانت أكبر عقبة أمام توسيع الحريات.
فالتحذيرات ليست أشكالاً للرقابة في حد ذاتها. ولكن توسيع مفهوم "الضرر" والفكرة القائلة بأن أي شكل من أشكال الكلام أو الأفكار يمكن أن يكون ضاراً، وأنه يجب حظره بشكل روتيني، لمنع الأضرار الناجمة عنه، ساعدت في دعم ثقافة الرقابة.
هذا التمدد لمفهوم الضرر أصبح روتينياً، في الكتب والصحف والرسوم المصورة والكاريكاتير التي يصاحبها تحذيرات غير اعتيادية، وفي مختلف أنحاء العالم، تمت المصادرة لكتب دينية وفلسفية وحتى الروايات مُنعت "آيات شيطانية" لسلمان رشدي الكاتب البريطاني، ووضعت جامعات في الولايات المتحدة قصص تشنو اتشبي كمحرِّض على العنصرية، وكذلك نفاجأ سنوياً بمنع معارض الكتب منشورات معينة؛ لسد ذرائع الفتن.
إن توسيع معنى الضرر بهذه الطريقة هو إفساد معنى الثقافة، وخيانة للعلم، فالقراءة والاطلاع هما مساحة للبالغين لاستكشاف أفكار جديدة، ولتوسيع معارفهم، ولاستجواب السلطة؛ لمعرفة كيفية إقامة الحجة. مساحة يمكن أن يطعن فيها، حتى يزعج أو يصدم أو يغضب، هي كما قال الكاتب جيل فيليبوفيتش "مكان حيث توسع العالم، والدفع للوصول إلى الحواف الخارجية، وليس المكان الذي يتعاقد لتلبية مكانهم بالضبط".
هو قبول التحدي المتمثل في استكشاف معتقدات الفرد والاستجابة للخلافات، من ناحية أخرى، أصبحت التحذيرات وسيلة لتقصير حجج غير شعبية أو غير مستساغة.
في العالم الحقيقي، نجبر جميعاً، في رأيي، على الالتزام أخلاقياً، في مواجهة قضايا العنصرية والكراهية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.