ما لم يخبروك به عن الغربة

ومع شيوع ثقافة الأمثال السلبية السارية عن الغربة ومن تلك الأمثال (الغربة كربة)، لا أدري لماذا لم تكن قُربة؟ مجرد أن تقلب حرفاً واحداً يتغير المفهوم، قول الآخر: (من خرج من داره قل مقداره)، لا أدري لماذا لا يكون المثل (من خرج من داره رفع مقداره)؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/17 الساعة 02:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/17 الساعة 02:22 بتوقيت غرينتش

منذ احتلال "داعش" للموصل في يونيو/حزيران 2014م دخلنا بدوامة الحياة الجديدة، التأقلم مع المتطرفين أو التحرر من قبضتهم، مهما كان الثمن غالياً أو رخيصاً، الحرية لها ثمن، وهناك من دفع حياته ثمناً لها، مع كل هذا التحدي الكبير الذي عشناه في تلك الحقبة المظلمة، كيف تجرؤ أن تتخذ قرار الخروج في ظل مجتمعنا الذي يرى الأرض قطعة منه لا يمكنه الانفكاك عنها بأي صورة كانت؟

ومع شيوع ثقافة الأمثال السلبية السارية عن الغربة ومن تلك الأمثال (الغربة كربة)، لا أدري لماذا لم تكن قُربة؟ مجرد أن تقلب حرفاً واحداً يتغير المفهوم، قول الآخر: (من خرج من داره قل مقداره)، لا أدري لماذا لا يكون المثل (من خرج من داره رفع مقداره)؟

وهذا حدث مع أناس مبدعين ما اشتهروا إلا في بلدانٍ أخرى، في ظل هذه السلبية الكاسحة التي نحن جزءٌ منها كأشخاص لم نكسرْ هذا الطوق في زمنٍ ما، على كل حال قرار الخروج لم يكن سهلاً، وإنما عليك أن تكسر قواعد صلبة في البيئة التي نشأت فيها، لكن بقيت الإرادة هي الشيء المحفز للإنسان على أن يكسر القيد ويخرج حراً لعالمٍ آخر، فالعيش في ظل التطرف له ثمنه على نفسية الإنسان وتفكيره حاضراً ومستقبلاً.

ولكن توجد أشياء إيجابية لم يخبرنا بها أحد عن الغربة، سواء أهلنا أو أساتذتنا أو من تربينا على أيديهم، أن للسفر وجهاً آخر غير الذي تسمعونه من المجتمع أو الأفكار المجتمعية الخالدة، ما لم يخبروك به عن الغربة؟ ما هي هذه الأشياء؟

نسوا أن يخبرونا بأن العالم أوسع من أوطاننا ومدننا ومناطقنا الصغيرة التي نعيش فيها، العالم أكبر بكثير من شارعنا الذي له نهاية، العالم ممتد يسع الجميع، لكن عليك أنت أن تخرج وترى هذا العالم الذي غاب عن ناظريك، لا أدري كيف تجاهلنا عوالم أخرى كانتْ تحيطنا مليئة بالفضل والخير، للأسف كنّا سجناء أوطاننا، ولم نصنع نحنُ فرصة التحرر منها، بل جاء من أحدث فوضى فينا وفي بلداننا جعلنا نبحث عن الوطن البديل.

سقط من مذكراتهم سهواً وربما قصداً، فلم يخبرونا أن جزءاً من نضج الإنسان وتفتح عقله ونبوغه يكون في السفر والترحال، فهذا الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- نضج فقهه حينما سافر من بغداد إلى مصر، فانتقاله من بلد إلى بلد شكل له آراء وفتاوى تختلف تماماً عن فقهه القديم، وكثير من العظماء والشعراء والمبدعين ذاع صيتهم في غير بلدانهم، وكان العالم بأسره يقصد بغداد دون أن يقصد سواها؛ لأنها أصبحت مركز العلم والإبداع، وكان العالم لا يعترف بعالميته أو إبداعه إلا بعد أن يقصد بغداد، وفي كل زمان تبزغُ بغداد جديدة، وإن حافظت بغداد على روحها وعبقها، لكنّ اليوم الوجهة تحولت لعواصم أخرى، وهذه سنة الحياة فبالأمس بغداد وبعدها قرطبة واليوم إسطنبول، عاصمة الجمال والإبداع يقصدها العالم من كل مكان.

وبينما نحن نمضي في الحياة حدثونا عن المجتمعات الأخرى بكل سلبياتها ورذائلها، لكن غاب الإنصاف من أذهانهم فلم يخبرونا أن المجتمعات الأخرى فيها أخلاقيات وسلوكيات إيجابية نستطيع أن نتعلم منهم ونجعلها جزءاً من سلوكياتنا الشخصية، فكثير من الأصدقاء الذين تعرفتُ عليهم يقولون بالحرف الواحد: إننا لم ننضج سلوكياً وفكرياً إلا بعد أن خرجنا من بلادنا وتعرفنا على مجتمعات جديدة أضافت لنا الكثير من السلوكيات الإيجابية.

عندما كنّا بين أهلينا واصدقائنا كانوا يتعجبون كيف لفلان أن يخرج خارج بلده، وكنّا نقلد بأن فلاناً لا يستطيع أن يسقي نفسه كأساً من الماء، كيف سيقوم بأشياء تقع على كاهله، خرج كثيرٌ من الشباب وأخذوا يجدون ويجتهدون ويبحثون عن العمل، بل نجاحهم أنهم حرثوا في أرضٍ غير أرضهم، وهذا أكبر نجاح لهم، استطاعوا أن ينظموا اقتصادهم وأصبح لهم دخلهم الخاص، استطاعوا أن يعتمدوا على أنفسهم بطريقة أو أخرى.

في الغربة ستعيد ترتيب أولوياتك وعلاقاتك مع الآخرين، ستجد من يبقى على صلةٍ دائمةٍ معك، وهناك من يتجاهلك ويقصدك وقت حاجته إليك، كل العلاقات ستتجلى لك، سترى أناساً لن يقطعوا معك الصلة نهائياً، ستجد أصدقاء أوفياء يكونون لك بمثابة الأهل والإخوة، ستجد البديل في كل شيء، ستعرف قيمة المكان الجديد حين يضيف لشخصيتك رونقاً آخر.

أتعجب من الذين ذهبوا وعادوا وبقوا هم هم، لم ينضجوا ولم يتغيروا ولم تتحسن أفكارهم وسلوكياتهم.

وقبل نهاية رحلتنا بالحديث عن الغربة، يحدثني صديق عن جارٍ له في ديار الوطن، يعيش حالة عزلة وغربة عن كل الذين يحيطون به، مُتناسياً قول الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما تكلم عن خيار الناس وأقربهم منه مجلساً يوم القيامة: (أكمل الناس إيماناً أحاسنهم أخلاقاً الموطّؤون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)، فالذين يألفون ويؤلفون أولئك الذين لا يوجد في قاموسهم كلمة غربة، فهم يألفون الناس ويألفهم الناس.

ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، ذلك الذي يألفُ نفسه بحاجز الحذر من الغربة والتغرب، فيحرم نفسه من تحقق غاية التعارف، إحدى غايات ومقاصد الخلق: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، لتعارفوا وتتعارفوا، لا لتنطووا وتتكوروا على أنفسكم.

وأخيراً…
[ في البداية ستعتقد أنك خاسرٌ لا محالة في معركة الغربة، ثم سيأتي وقت تكتشف فيه أنه لا غالب ولا مغلوب في تلك المعركة، ثم يأتي وقت تعرف فيه أنها ليست معركة من الأساس، إنما هي مرحلة من مراحل، ومحطة من محطات الحياة تعيد فيها ترتيب حقائبك، تخفف الوزن أحياناً، وتزيده في أحيان أخرى].

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد