فيلم “هلأ لوين”.. عن فتنة التنوع الديني

رمل، شواهد منتصبة، جثمان، مشيِّعون، وممر يقسم المقبرة لنصفين؛ نصف لدفن مسيحيي الديانة، ونصف آخر لدفن مسلمي الديانة، نعش يحمله مشيِّعون من كلتا الديانتين، وقفوا في منتصف الممر وكانت تبدو علامات الحيرة على وجوه المشيعين، تحرك بعضهم لليمين، البعض تحرك لليسار، يمين يسار، ثم استدارة كاملة ليسألوا ما رأي الجماعة في أين تدفن الجثة؟ "فيلم هلأ لوين 2011".

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/17 الساعة 02:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/17 الساعة 02:24 بتوقيت غرينتش

رمل، شواهد منتصبة، جثمان، مشيِّعون، وممر يقسم المقبرة لنصفين؛ نصف لدفن مسيحيي الديانة، ونصف آخر لدفن مسلمي الديانة، نعش يحمله مشيِّعون من كلتا الديانتين، وقفوا في منتصف الممر وكانت تبدو علامات الحيرة على وجوه المشيعين، تحرك بعضهم لليمين، البعض تحرك لليسار، يمين يسار، ثم استدارة كاملة ليسألوا ما رأي الجماعة في أين تدفن الجثة؟ "فيلم هلأ لوين 2011".

للسينما أهمية بالغة في كونها أداةً تثقيفيةً تساهم في البناء المعرفي للإنسان، تلمسُ وجدانه وتقوم بمهمة بالغة الحساسية؛ وهي إعادة ترتيب وتشكيل الوعي الإنساني، لتضعه أمام العديد من المقاربات مع واقعه، وطرح الأسئلة لفهم الإخفاقات وخلق الحلول. وهذا ما سيحاول المقال تتبعه ما بين الفيلم السينمائي "هلأ لوين" والواقع الفلسطيني على مدار سنوات الانقسام.
إن السؤال الذي يرافق المواطن الفلسطيني في الوقت الراهن، ليس أبداً "هلأ لوين؟"؛ لأنه على مدار أحد عشر عاماً كان يدرك تماماً "لوين" وهو الآن في حالة "هلأ"، حيث يعلم الجميع أين يجب أن تُدفن جثة "الانقسام"، ويعلمون أيضاً "وين". وهذا ما يستدعي القلق، أن يكون التفكير منحصراً في الاستحقاق الحالي والحلول السريعة التي لا تطول أصل المشكلة، حلول باهتة وإجرائية فقط. يقول جلال عامر: "المشكلة ليست في أنه لا يوجد حل، ولكن المشكلة أنه لا أحد يريد الحل".

إن خطورة هذه المرحلة تكمن في أنها ستؤسس لما هو آتي، خصوصاً في أن حادثة "الشقاق والنزاع" ليست بالجديدة فلسطينياً، حيث ترجع جذور أول حادثة انقسام فلسطينية إلى عائلتي الحسيني والنشاشيبي، وإن كانت رغم خصوصيتها لم تمتد جغرافياً، فإن الحالة الأخيرة بطشت بالكل الفلسطيني.

إن إعادة التأصيل التاريخي للانقسام، يجب أن تخبرنا بشيء عن تاريخ اختلافاتنا على مدار السنوات الماضية، فالأول كان في العشرينيات تنافس عائلي وبسط نفوذ، والثاني في منتصف الستينيات على قيادة منظمة التحرير بين فصائل المنظمة ثم تشكل جبهة الرفض، والثالث فترة الثمانينيات داخل حركة فتح، ثم مفترق الطرق الأكبر "أوسلو"، والنتيجة لكل ما سبق هو الوضع الراهن. إذاً؛ نحن أمام تاريخ متسلسل من الانقسام والاختلاف وتضارب وجهات النظر والمصالح. وأطرحُ سؤالاً مُلحاً: إن كنا بارعين في الاختلاف إلى هذا الحد، فلماذا لا نكون بارعين في الصلح؟!

الإلهاء المصطنع
تتفق نساء الضيعة بأن يضعن حداً لخلافات الرجال، التي كلما احتدت حصدت روحاً، فيتفقن على جلب راقصات استعراضيات لإلهاء الرجال بإقامة حفل والتسلل في أثنائه لمخابئ السلاح لسرقته، ثم يقمن بدفنه.

بإمكانك -عزيزي القارئ- إسقاط هذا المشهد على العديد من الإلهاءات المصطنعة التي مورست بحقك أينما كان محل وجودك، وإن كنت مقيماً في فلسطين على وجه الخصوص، فستدرك أنها ليست إلهاءات ممتعة كما بالفيلم أعلاه، ففي كل منطقة كان هناك أنواع مختلفة من الإلهاءات تتناسب مع طبيعة كل منطقة وأناسها، إلهاءات بسيطة تُفرض على الواقع اليومي فتصبح جزءاً منه مع الوقت.

فمثلاً، يصبحُ عادياً للمواطن أن يستغرق في التفكير كم من الوقت سيمضي على الحاجز الإسرائيلي حتى يصل لجامعته، أو عمله في الوقت المحدد، ولا يصل. يصبحُ عادياً أيضاً أن تحترق عائلة بأكملها بسبب الشموع؛ لأن التيار منقطع منذ أكثر من اثنتي عشرة ساعة ولا يأتي. يصبح عادياً أن يمنح الاعتراف بمدينة القدس عاصمةً لكيانٍ صهيوني مستعمر، أن يصبحُ المخيم هوية تورث عبر الأجيال، أو عادياً أن تصبحَ ألواح الزينكو بيتاً!

أحد عشر عاماً، تم خلالها تغييب المواطن وتهجيره معنوياً، وقتله نفسياً ومادياً طيلة الوقت. أحد عشر عاماً، كانت فيهن تتراجع معاني الهوية الجمعية لصالح الهوية الفردية وقيم الخلاص الذاتي وتعاظم الشعور بالاغتراب. وإن صح القول، لم ننجح حتى في تكوين هويات فردية؛ لأن هذه الهويات نشأت في ظروف غير طبيعية بالمطلق؛ فمن ثم هي هوية مسخ.

حيث يشعر الفلسطيني بأنه مُبعَد داخل بلاده، أنت تمتلك حنجرة، لكن لا صوت لك يُسمع، القائمون على الإخراج لا يرفضونك لرداءة أداءك، هم ببساطة لم يعلنوا عن تجارب أداء من الأساس، هذا العمل الفني المقيت، بطولةً وإنتاجاً وإخراجاً، خالص لهم، أنت فقط مُشاهد، فالتزم الصمت حتى لا تزعج بقية المشاهدين.

إن كنت شاباً في مقتبل العشرين حين وقع الانقسام، وعلى افتراض أنك لا تزال شاباً حتى اللحظة، فأنت أيضاً مُبعَد ومُقصىً كحال أقاربك وأصدقائك الذين غادروها مرغَمين. لقد سرقوك في أثناء هذا الاستعراض المصطنع وأفرغوك منك، حتى بتَّ لا تعلم من أنت أو ماذا تفعل هنا!

"كلُّ مكانٍ لا يُؤنثُ لا يُعوّلُ عليه" ابن عربي
النساء يجتمعن في مقهى آمال بشكل دوري، يتبادلن الأحاديث، يتجاوزن كل الاختلافات، يسخرن من الحياة بأحاديثهن، ويخططن طوال الوقت لتخفيف حدة الاحتقان بين رجال الضيعة ليحققن الصلح المنشود.

في العمل الفني الرديء المستمر منذ سنوات، تُستعمل المرأة فيه أبشع استعمال، حيث يتم استغلالهن وتنميطهن في أدوار مُعَدَّة سلفاً لتعكس وجهة نظر ورأي المخرجين، ومتى قررت إحداهن الارتجال أو الخروج عن النص، بفرقعة الأصابع تُستبدل.

حيث تُشكِّل الإناث نصف المجتمع الفلسطيني؛ ومن ثم يشكلن قوة انتخابية موجَّهة مع الأسف، لماذا موجَّهة؟ بدايةً، لأزمة وعي النساء بأنفسهن، ولأزمة أخرى لا تقل مأساوية عن الأولى؛ وهي الهيمنة الذكورية في توجيههن وفق قيم وعادات المنظومة الأبوية، حيث أصبح التوجه السياسي مثلاً، قيمة تورث لا يجوز الخروج عنها إلا ما ندر، حيث سمعنا كثيراً من القصص عن نساء طُلِقن لأنهن قمن بتصويت مغاير لتوجُّه أزواجهن أو هُدِّدنَ بالطلاق والكثير من أساليب القمع والتوجيه لهذه الأصوات المقترعة. ففي الانتخابات التشريعية الأخيرة عام 2006، شكَّلت النساء ما نسبته 46 في المائة من إجمالي الأصوات المقترعة.

وفي انتخابات هيئات الحكم المحلية الأخيرة، حيث ينص قانون انتخاب مجالس الهيئات المحلية رقم (10) لعام 2005 على أنه "يجب ألا يقل تمثيل المرأة في أي من مجالس الهيئات المحلية عن 20%". وبحسب المعطيات الصادرة عن "لجنة الانتخابات المركزية الفلسطينية"، فإن نسبة النساء اللاتي ترشحن لخوض الانتخابات المحلية في الضفة الغربية بلغت 26% من إجمالي المرشحين المسجلين في القوائم الانتخابية.

إن كنت -عزيزي القارئ- تظن أن هذه نسبة جيدة، فاسمح لي بتذكيرك بأن الانتخابات المحلية الأخيرة شهدت صدور قوائم لم تكن فيها أسماء النساء المرشحات كاملة؛ بل تم اختصارها بـ"زوجة فلان" و"أخت فلان"، هذه القوائم الصادرة بعُرف العشيرة أو القبيلة، استُعملت المرأة كمتطلَّب قانوني فقط أو جسر عبور نحو كرسي البلدية. وحتى الأصوات المطالبة بضرورة وجود عنصر نسائي في عملية المصالحة، مطالبات معيبة برأيي؛ لكونها تُدعّم فكرة أن وجود المرأة شكلاني في الساحة السياسية، ولأنه -بأسف بالغ الصدق- لا توجد كفاءات نسائية شابة تتواءم مع طبيعة المرحلة.

تجارة الأزمة
رجال الضيعة مصطافُّون أمام صالون الحلاقة لترتيب هيئاتهم، ويقوم بعض الشباب باستقطابهم لتقديم بعض عروض علاج الصلع ونصائح لحسن الهندام.

يعيدنا هذا المشهد لمواقف عديدة مرت علينا في الواقع الفلسطيني، في قطاع غزة على وجه التحديد، مواتير، ليدات، بطاريات، بطاريات، بطاريات خربانة للبيع… نعم، إنها مقدمة ساخرة؛ لكون الوضع يتطلب ذلك؛ لأن لكل أزمة هناك مستفيد من ورائها، أو بالأحرى مستفيدون، لكن هل يصبح للأزمة تجار؟

إن المشهد الاقتصادي على مدار السنوات الإحدى عشرة الماضية يثيرُ القلق، فالتحول الكبير في شكل الاقتصاد بقطاع غزة بعد الحصار وإغلاق العديد من المنشآت الصناعية أبوابها وتعطيل العاملين، جعل الاقتصاد في غزة يتخذ شكل الاقتصاد الريعي، الذي من المنطقي كذلك وصفه بأنه ريحي؛ لكونه مرتبطاً بتجارة الأنفاق التي شكَّلت عصب الاقتصاد الغزي خلال هذه السنوات الماضينصرمة، ولأنها تجارة نمت فجأة، وفجأة أيضاً أفلس عدد كبير من تجارها ومستثمريها لأسباب مختلفة، منها هدم أنفاقهم، سواء من الجانب المصري أو من الجانب الإسرائيلي أو من خلال استثمار وتشغيل أموالهم مع جهات أو أفراد نهبت هذه الأموال لصالحها الشخصي.

إنَّ زخم وتدفُق الأرباح غير المعقول والاغتناء السريع الذي بات في متناول فئة ليست بقليلة، ساعد على تشكُّل شريحة مستجدة من الأثرياء الذين لا يحملون أي خبرة حقيقية في العمل التجاري أو الاستثماري، ولكون أغلب أموالهم خارج البنوك، حيث شهدنا تشكُّل ثِقَل اقتصادي جديد في جنوب القطاع موازٍ للثقل الاقتصادي في المدينة. فالاغتناء السريع لهذه الفئة الجديدة، والافتقار المدقع لأصحاب المهن والكسب الزهيد، كشفا تبايناً واضحاً في الفارق الطبقي للشرائح المكوِّنة لطبقات المجتمع الغزي واختلالها.

إن الشرعية التي صبغت تجارة الأنفاق بها نفسها؛ لكونها المتنفس الوحيد للقطاع اقتصادياً، باتت تفرض واقعها الخاص، بمعنى أكثر وضوحاً أن هذه التجارة التي حوَّلت منحى الاقتصاد في غزة لسوق استهلاكي غير منتج ويعاني أزمة نقدية، إلى تمكين سطوة وتحكُّم هذا الاقتصاد في مناحي الحياة كافة، فمثلاً، ولا يخفى على أحد أن هناك من هم مستفيدون من استمرار الأزمات في القطاع، ومن أهمها أزمة انقطاع التيار الكهربائي مثلاً.

فهناك العديد من الأشخاص والجهات -منها من هم محسوبون على الحكومة- التي استثمرت في مشاريع إمدادات كهربائية عبر مولدات خاصة، وفرضت تسعيرة مرتفعة جداً لا تتلاءم مع القوة الشرائية للمواطن العادي، وحققت أرباحاً عالية جداً لمستثمريها. في الوقت الذي لا يوجد فيه أي نوع من الرقابة على أسعار هذه الخدمات والسلع من قِبل الحكومة؛ بل والعكس كان هناك فرض ضرائب مرتفعة على العديد من السلع والخدمات الأساسية.

إن هذه الأمثلة وغيرها، كانت في بادئ الأمر حلولاً إغاثية وإنعاشية لحال القطاع الذي كان يقاسي ظروفاً معيشية غير إنسانية ألبتة، ولكن هذه الحلول بات مستثمروها يرونها وضعاً دائماً، ويسعون لتمكينها بحيث تصبح هي الأساس لا البديل، ولأسباب غياب الرقابة والمساءلة وحماية المستهلك من الاستغلال، وحالة الجشع والتغول التي تزايدت عند ما يمكن أن نسميهم "تجار الأزمة" بِتْنا اليوم أمام مأساة حقيقية، حيث بات المواطن الفلسطيني مُستغَلاً ومُستباحاً بأبشع الصور من كل الأطراف، وعليه أن يدفع فاتورة هذا الانقسام من جيبه.

المشهد الأخير.. أصل البداية
النساء في نهاية الفيلم قررن الثورة على نقطة الخلاف الأكبر، وهي التنوع الديني؛ ففي صباح اليوم الأخير، استيقظ كل رجال الضيعة ووجدوا زوجاتهم المسيحيات أصبحن مسلمات، والمسلمة أصبحت مسيحية، وهذا هو الحال الآن فتعاملوا معه.

تعرية الوعي من مخاوفه والاصطدام المباشر معها، خلقت قبولاً مرتبكاً وخجولاً، حيث رأينا في المشهد الجنائزي الأخير، حالة الارتباك التي سادت في أين تدفن الجثة. الجواب كان سهلاً، لكن الرسالة الأهم التي مررها المشهد، هي: هل كان القبول بالحال حقيقياً؟ وإن كان حقيقياً، فماذا بعد تجاوز الاختلاف؟

جوابي -إن كنت أملك حق الجواب- هو اقتباس للمفكر "مهدي عامل" من كتابه "تمرحل التاريخ": "يجب دراسة الوقائع الاجتماعية من أجل نقل الثورة الظاهرية إلى مستوى الثورة الحقيقية"، بمعنى أن الغضب الصامت والساخط، يجب أن يترجم من حالته الساكنة الظاهرية، إلى فعل سلوكي حقيقي، وأن نُظهر البراعة ذاتها في الاختلاف، في التقارب والتفاهم بفعل ملموس على أرض الواقع؛ كي نوقف هذه الفضيحة التي ما زالت تقتلنا وتهجِّرنا، وتُفقدنا أدنى مقومات الشعور بإنسانيتنا. إنه الوقت الملائم كي نمزق كل الخطابات ونُردي كل الشعارات الرنانة، وأن نفعل شيئاً واحداً لننقذ ما تبقى من الممكن إنقاذه من أنفسنا، حان الآن وقت دفن الجثة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد