الناصر صلاح الليفربولي وفتح بلاد ريتشارد

نشاهد بعد فصول طويلة من هذا الصراع المرير فيديو يظهر فيه مجموعة من الشباب الإنكليزي من مشجعي نادي ليفربول، حيث يلعب المصري محمد صلاح، وهم يغنون بأنهم على استعداد للتحول إلى الإسلام إذا استمر صلاح في إحراز المزيد من الأهداف.

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/17 الساعة 03:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/17 الساعة 03:23 بتوقيت غرينتش

"لو لم يكن قتل النفس خطيئة لقتلت نفسي قبل أن أكون زوجة مسلم"

لم تكن "لويزا دي شاتينيو" هي قائلة هذه العبارة كما جاء في سيناريو الفيلم الذي أخرجه ببراعة الراحل يوسف شاهين، الذي أيضاً استبدل عبارة "رجل مسلم" بعبارة "عربي من معسكر الأعداء"، لأن صناع الفيلم أرادوا تحوير بطولة القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي لتخدم أفكار القومية العربية، كي يتوافق السيناريو مع الخطاب الناصري الذي انتشر في ستينات القرن المنصرم، بدلاً من كونها بطولة إسلامية استعادت القدس الشريف التي اغتصبتها حملة صليبية دينية.

ولكن الثابت تاريخياً أن قائلة هذه العبارة هي الأميرة "جوانا" شقيقة ملك الإنجليز وقائد الحملة الصليبية الثالثة الملك ريتشارد، حين عرض عليها الزواج من الملك العادل شقيق الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، بفكرة أن يكون هذا الزواج السياسي بداية تدشن حلاً دبلوماسياً لحملته التي باتت قاب قوسين أو أدنى من الفشل، بعد انسحاب الفرنسيين وقرب وصول الجيش المصري لإكمال حصار جيش ريتشارد، الذي أنهكه صلاح الدين بهجماته المتكررة.

يقول القاضي ابن شداد في كتابه النوادر السلطانية: "وصلت رسل ملك الانكتير إلى العادل بالمصافحة على المصافاة، والمواتاة في الموافاة، وموالاة الاستمرار على الموالاة والأخذ بالمهاداة والترك للمعاداة، والمظاهرة بالمصاهرة، وترددت الرسل أياماً، وقصدت التئاماً، وكادت تُحدِثُ انتظاماً، واستقر تزوج الملك العادل بأخت ملك الانكتير، وأن يعول عليهما من الجانبين في التدبير، على أن يحكم العادل في البلاد، ويجري فيها الأمر على السداد، وتكون المرأة في القدس مقيمة مع زوجها، وشمسها من قبوله في أوجها، ويُرضي العادل مقدمي الفرنج والداويّة والأسبتار ببعض القرى، ولا يمكنهم من الحصون التي في الذرا، ولا يقيم معها في القدس إلا قسيسون ورهبان، ولهم منا أمان وإحسان".

ومن هذه الفقرة نلاحظ أن اتفاقا سياسياً مرموقاً كان على درجة كبيرة من النضج أفشله رفض الأميرة جوانا شقيقة الملك ريتشارد وأرملة حاكم صقلية الزواج من الملك العادل، لأنه مسلم، لدرجة أنها استنجدت ببابا الكاثوليك لإيقاف هذه المصاهرة، باعتباره وليها لكونها أرملة وفق عقيدتهم، وقد كان للأميرة ما أرادت، مما يعكس تعصباً إنكليزيا شديداً ضد دين الإسلام، ورغبة في استمرار الحروب الصليبة، ملهمة لهم، ومحركة ومحفزة لقدراتهم رغم الضحايا والخسائر الكبيرة، وليس أدل على ذلك من تصريح الجنرال اللنبي -الذي جاء بعد قصة الأميرة جوانا بقرون طويلة حين دخلت قواته القدس، في التاسع من ديسمبر/كانون الأول عام 1917، بعد هزيمة الحامية العثمانية التي استبسلت في الدفاع عنها أثناء الحرب العالمية الأولى – الذي قال فيه: الآن انتهت الحروب الصليبية!

ولكن المدهش السعيد، ذو الإلهام الجديد، أن نشاهد بعد فصول طويلة من هذا الصراع المرير فيديو يظهر فيه مجموعة من الشباب الإنكليزي من مشجعي نادي ليفربول، حيث يلعب المصري محمد صلاح، وهم يغنون بأنهم على استعداد للتحول إلى الإسلام إذا استمر صلاح في إحراز المزيد من الأهداف.

غناء يعبر فوق عصبية آبائهم الأولين -الذين كانوا ينضمون بحماس للحملات الصليبية الحملة تلو الحملة نهشاً في جسدنا الإسلامي الذي أعيته الفتن، وانصراف حكامه إلى اللهو والمجون، وتعيين الأتباع دون الأكفاء- ليجبرنا أن نعيد قراءة الشخصية الغربية بعدالة وحيادية، وكيف كنا نستطيع نشر رسالتنا السمحة ذات الرواية المثالية لإرادة خلق هذا الكون وخلق الإنسان ليكون محوره واستخلافة على الأرض فقط، إن كانت أمتنا لم تتوقف عن تقديم الرموز والمثل العليا كما قدمت أخيراً اللاعب محمد صلاح.

فماذا فعل صلاح حتى يبشرنا بإمكانية فتح بلاد ريتشارد بعد كل هذه القرون؟

صلاح ببساطة شاب اجتهد في عمله الذي يتقنه بالتزام وتواضع، فأدخل السعادة والسرور في قلوب الملايين، فأحبوه ثم احترموه، فبقي الحب ونضج، لأن الاحترام من الحب بمثابة الوقود من السيارة، ذلك لأن الإنسان قد يحب يوماً حتى دون سبب واضح، ولكنه إذا ما وجد الاحترام توقف الحب في مكانه، ثم تغلبه عوامل التعرية والصدأ، فيتآكل ويتلاشى ويمسي أثراً بعد عين.

صلاح أيضاً لم يُخف دينه، لم يخجل منه، رغم الدعاية الرهيبة التي تَسم أتباعه بالإرهاب لتنفر الغربيين من الإسلام، حتى إنها أوجدت ما يسمى الإسلاموفوبيا، رغم ذلك كله، صلاح كان يسجد لله شكراً بعد تسجيل كل هدف، وكأنه يريد أن يقول لجمهوره من الإنكليز: أنا لا أستحي من ديني.. أنا فخور به.. فهو يمنحني السلام الداخلي، وأسس الحفاظ على نفسي وموهبتي التي منحني الخالق إياها، وأيضاً فضيلة إتقان عملي، فضلاً عن القوة الروحية اللازمة لمزيد من الجّد الذي يسبب لكم السعادة بعد كل انتصار.

حقاً ما زلت غير مصدق ما شاهدته في هذا الفيديو، وربما لو كانت الأميرة جوانا على قيد الحياة وسمعت هتافات أحفادها التي تُظهر استعدادهم لدخول الإسلام من أجل صلاحنا الجديد، لندمت أشد الندم على عرض الزواج والملك الذي رفضته قديماً، ولكنها حكمة الله، التي أحاول أن أحملها للمتشددين الذين يمنون علينا باحتكار العلم الشرعي، وسبل النجاة، حكمة الله التي أرادت أن تجعل من لاعب كرة قدم أفضل رمز معبر عن الإسلام في واحدة من الدول التي كانت شديدة العداء للإسلام في الماضي، دون حكامنا وملوكنا وسلاطيننا وأمرائنا ووزرائنا وقادة جيوشنا، وأيضاً دون علمائنا ومفكرينا، نعم، صلاح فعل لديننا أكثر مما فعله هؤلاء جميعاً فقط لأنه قدم نموذجاً صالحاً في العمل الجاد المحترف الذي يدخل السرور على قلوب الملايين بتواضع دون منّ أو أذى.

اللاعب صلاح لم يكشف لنا فقط عن ضعف قدرة أمتنا على تقديم قدوة حسنة للعالم الغربي، بل وضع أيدينا على أهم أسباب انتكاسة الربيع العربي، مما مكن الثورات المضادة من استعادة زمام المبادرة، ذلك لأن الشاب العربي النقي الصادق، الذي خرج في العديد من البلدان عام 2011 وملأ الميادين، مضحياً بحياته وأمنه، لا يبغي سوى حكم رشيد يعيد أمتنا لأمجاد الماضي العريق، لما هدأ وسلم ثورته إلى نخبته وجدها نخبة جرفها الفساد، وأهلكها انعدام الأخلاق، نخبة صرعها التحاسد فيما بينها، آفتها التلاسن والتجارة بالشعارات، نخبة لم تدرك عظيم تضحية شباب الأمة، فأعادونا إلى الخلف سنوات وسنوات، وكنا نعتقد بعد انطلاق الربيع العربي أننا سنُسابق الريح لاستعادة ما كان.

إن تجربة اللاعب محمد صلاح الذي جعل الإنكليز يغنون للإسلام حري بها أن تحمل الشارع العربي للبحث الدؤوب عن نخبة جديدة صالحة، تكون قدوة للحاضر البائس، نخبة ترفض التشدد والغلو بنفس القدر الذي ترفض فيه التساهل والتفريط، نخبة تعمل بنفس جدية واحترافية وصدق والتزام اللاعب محمد صلاح، بسُموّ نفسٍ وأخلاق، لتحقيق قيم ومبادئ ربيعنا العربي، وفرضها واقعاً يرسم ملامح المستقبل القريب.

وأخيراً، أسأل الله العلي القدير أن يحفظ ابننا الغالي محمد صلاح، الذي كان خيرَ سفير لديننا المكلوم بدعاته قبل أتباعه من العامة، وأن يبعد عنه أشباح الظلام، من يسعون لتحطيم أي بارقة أمل تسطع بنور مُشعّ لهذه الأمة منذ قرون، العقارب الذين سعوا لتقديم كل تافه منا، واغتيال كل عالم يولد لنا، الحيّات الذين ولوا علينا شرار قومنا ومكنوهم من رقابنا، وأوعزوا إليهم بقتل الصالح منا أو اعتقاله، إنه سبحانه نعم الحافظ ومنه اليقين.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد