حين نقوم بقراءة تاريخ المجتمعات السورية نجد أن تماسكها رغم تباينها الإثني والطائفي "عقيدة اجتماعية" تحكمها الرجولة والشهامة والنبل والأخلاق.
لكن مع مرور الزمن ظهرت هذه المجتمعات وقد انفصلت عن مبادئها وقيمها، وقد تغلغلت فيها "الأنا"؛ ليحكم السلطان شعبه بهذا المفهوم، والأب أسرته، والعقيد حارته، وهو ما نراه الآن واقعاً معاشاً في التشكيلات المجتمعية المختلفة التي تأبى أن تجتمع على قلب رجل واحد.
منذ أمد قريب لم توفر بعض المجتمعات الفرصة في الخروج على هذا المفهوم، وهي مرحلة هدفت إلى الانفصال عن واقع عايشته طيلة عقود بحثاً عن هوية أخرى سالكة طريق (الحرية) التي نادت به دون وعي مسبق بماهية هذا الماعون.
اتجهت في البداية إلى الهوية المبعثرة ثم ما لبثت أن غيرت علم البلاد، عساها أن تغير الواقع، لكنها وجدت أن الجذر الأصلي هو إعادة الإسلام المفقود بشعارات براقة دون العمل به جوهراً؛ وهو الابتعاد عن العنف والدعوة إلى السلام.
تبين أن هذه الرحلة الروحية غير موفقة، قادت المجتمع إلى أحضان جحيم جديد انبثق من واقع مشبع بالانفصام والتشرذم والطائفية والقومية.
لم توفق هذه المجتمعات بالتخلص من عبء الانتماءات التي باتت تشكل عائقاً آخر أمامها في طلب الحرية المنشودة.
مع هذا التطور الدراماتيكي الذي يعيشه المشهد السوري تُقنع المجتمعات نفسها بانتصارات وهمية وهزائم رابحة، وهو ما أبعدها عن هدفها الأساسي، وجعلها تتقوقع ضمن تشكيلات اجتماعية معقدة منزوعة الإرادة والمبادئ، تُمنّي ذاتها بصوابية الرؤية ووضوح المفهوم، لكنها غير ذلك، إنه صراع الانفصال عن الذات!
ثم لا يمكن أن نعتبر الوضع الاجتماعي الراهن وما آل إليه السوريون إلا صراعاً طبقياً من نوع مختلف، لكنه حكماً غير الصراع الذي تحدث عنه كارل ماركس واعتبره محركاً للتاريخ.. فواقع الحرب فرض انهيارات حتمية تشبه إلى حد بعيد الانهيارات الطبقية في الحروب الأوروبية.
ففي واقع الأمر تعاني المجتمعات السورية أزمة تفاوت وعمق متناقض في التشكيل الجديد بعد انهيار حالة الدولة وشكلها في مناطق شتى، وقليل من استطاع المحافظة في بقع محدودة على مفاهيمه وقيمه ومبادئه ضمن دوائر اجتماعية ضيقة ومهددة في أي لحظة.
هناك عوامل ساهمت في تعميق حالة الانهيار، منها ولعلها استهلاك جيل الشباب في الحروب أو في الهجرة الخارجية، مع وجود معيقات العودة لانعدام حالة الوطن، إلى جانب الضياع النفسي والاضطراب الانتسابي، وعوامل أخرى أكثر حقيقية، منها التوجه الطائفي والمذهبي والقومي، وفي حالات أخرى القبلي والعشائري، ولكنّ هذه المجتمعات ورغم كل ما هي عليه تتمتع بصفات مشتركة إيجابية، منها التحضر والتمدن والتحرر والانفتاح والقدرة على التفاهم، وصفات تصنّف سلبية، منها التدين الأعمى والأنانية والتخاصمية والتصدع الأخلاقي والانفعالية اللاواعية وإضمار الشر، وتجتمع كل هذه العوامل في محرك واحد هو حبها لوطن غريب اسمه سوريا.
بمفهوم آخر، إننا نشهد عملية انهيار طبقي وانقسام مجتمعي جسيم في سوريا، ويمكننا التكهن بشدة أن المستقبل ليس وردياً كما يشيع البعض، كيف ذلك وقد هوت المجتمعات السورية في منزلق كبير انعكاساً لواقع عاشته جعل من المعلم (مربي الأجيال) يدفع بعربة خضار، ومن عتال في سوق الهال مليونيراً، ومن شهبندر تجار إلى بائع بسطة، ومن خريج سجون إلى صاحب متاجرن ومن أبناء مومس إلى أمراء حرب وسادة والقياسات جمّة؟!
إنه انهيار اجتماعي وطبقي كبير، رغم احتفاظ تلك المجتمعات بنوع من العلاقة الفئوية التي قد تشكل فائضاً محدوداً من الطبقية بينها.
ولكن أن تظل الفئة الاجتماعية بكينونتها التي كانت عليها أمراً أسطورياً في ظل الشعور المتزايد بالكراهية والحقد والاستغلال والسلبية، وهو ما يترجم تناقض الاتساق الفكري والاضطراب النفسي والانقلاب الوظيفي لفئة على أخرى.
وعليه، فإن التحول في الهرمية الاجتماعية يقودنا إلى حالتين:
1) المجتمعات السورية بحالتها التراتبية والطبقية المتوارثة عقوداً زمنية طويلة انهارت إلى غير رجعة.
2) المجتمعات السورية الآن في طور جديد وتحول مثالي إلى الطبقة الهلامية التي يتمترس خلفها الكثيرون من أمراء الحروب وتجار الأزمات ورجال السياسة ومزامير الأديان، غايتهم الإبقاء على الوضع الراهن لحصاد مكاسب مستمرة تناسب كل فئة وحاجتها، متسلحين بإذكاء العداوات والخلافات والجدليات.
شيء أخير قد يدفع إلى تصحيح مسار المجتمع السوري، رغم كل التشتت والشرذمة: هو وضع العاقل في مكانه، وإعادة الجاهل إلى مكانه، وتقليص الوهم الجغرافي الذي يعيشه البعض بمفهوم إعادة "التضامن الميكانيكي"، والتعاون البناء بين أفراد المجتمع السوري، حسب إميل دوركايم، وذلك للتوصل إلى الجغرافيا التي ينشدها الجميع (سوريا) وطناً لجميع السوريين.. دُمتم بخير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.