“حارة الدراويش”: كيف غيّر سنباط حياة الحرافيش؟ وكيف صنع جيلاً مقاوماً للفتوات؟ “2”

ومع مرور السنين كبر الأطفال الذين واظب سنباط على تعليمهم في الكتاب، وأصبحوا يكنون الإجلال والاحترام لمن علمهم، وكذلك كثر مع الوقت عدد الأرامل والأيتام والفقراء الذين كانت تنفق عليهم الجمعية الخيرية التي يتولى الإشراف عليها، كان يذهب إلى الحارات الاخرى والخيرين ويحصل منهم على زكاتهم وصدقاتهم وينفقها على الفقراء.

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/14 الساعة 04:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/14 الساعة 04:11 بتوقيت غرينتش

وسط هذه الحارة التعيسة نشأ المعلم سنباط، وتزوج فيها من نفيسة ابنة خاله خلدون، وأنجب منها ولدين هما حمدون وباسط، وبنتاً سماها حبيبة، وكان في مقتبل حياته يعمل في كتاب الحارة، يحفظ أطفالها القرآن ويعلمهم القراءة والكتابة والحساب، ويشرف على جمعية خيرية تقدم المساعدات للأرامل والفقراء والصيع والحرافيش.

وفي بعض الأوقات إذا غاب خطيب الجمعة أو ألمّ به مرض يطلب منه الحرافيش أن يخطب فيهم، وظل محبوباً من أبناء الحرافيش، مكروهاً من الأعيان وشيخ الحارة والفتوات، فهم يحقدون عليه حب الناس له، والفتوات كانوا كثيراً ما يضايقونه ويفرضون عليه دفع الإتاوة، رغم أنه لم يكن يحصل إلا على قروش قليلة تكفيه بالكاد هو وزوجته التي لم تكن تعمل، والتي تزوجها بعد أن فاتها قطار الزواج.

وكان الرجل يستسلم لذلك بكل رضا شأنه في ذلك شأن كل الحرافيش، ودائماً يقول: صبر جميل.

كانت نفيسة تحب سنباط، في الحقيقة أنها لم تعرف شخصاً قبله، فقد كانت حبيسة في دار أبيها، ولم يكن يدخل ويخرج عليهم أشخاص كثيرون، وكان أفضلهم سنباط، كانت تتلهف لرؤيته عندما يحضر، وتشتاق إليه عندما يغيب، رغم أنها كانت تشكو من بلادة مشاعره نحوها، ورغم أنه أتيحت له فرص عديدة للاختلاء بها قبل الزواج، خاصة عندما كان يحضر ولا يجد خاله، إلا أنه لم يفعل يوماً معها شيئاً، لم يحاول لمس يديها أو تقبيلها أو حتى قول كلمة من كلمات الحب، دائماً ما كان يخرج مسرعاً تاركاً رسالة لخاله بأنه سوف يحضر في وقت آخر، أو ما يريد إيصاله له، وكان هذا شيئاً مستفزاً لنفيسة، فهي ككل البنات تريد من يتغزل بها، أو يقبلها على حين غفلة، وقتها ستكون غاضبة في الظاهر، ولكنها في قرارة نفسها ستكون راضية أتم الرضا.

لكنه كان يدخر كل ذلك لما بعد الزواج، فهو يظل يسمعها أرق الكلمات وأعذبها، في ليالي الشتاء الطويلة وفي أيام وليالي الصيف، إلا أنه كتوم جداً فيما يعانيه من إحباطات ومصاعب، صبور جداً في حياته رغم قسوتها، يبدو دائماً كخصرة في مهب الريح، لا تستطيع الرياح أن تأخذ منها شيئاً ببساطة؛ لأن ليس لديها شيء.

أنجبت نفيسة من سنباط ثلاثة أولاد وبنت، كبروا جميعاً في حضن أبيهم وأمهم، وعلم الأولاد منهم صنعة أو حرفة تنفعهم في مستقبل أيامهم، أما البنت فقد أعدها لتكون ربة منزل مثل أمها وجدتها، وهكذا دارت الأيام دورتها، الابن يرث من أبيه صبره وعزيمته ورضاه بواقعه المرير والبنت تتعلم من أمها فنون إدارة منزل المستقبل.

ومع مرور السنين كبر الأطفال الذين واظب سنباط على تعليمهم في الكتاب، وأصبحوا يكنون الإجلال والاحترام لمن علمهم، وكذلك كثر مع الوقت عدد الأرامل والأيتام والفقراء الذين كانت تنفق عليهم الجمعية الخيرية التي يتولى الإشراف عليها، كان يذهب إلى الحارات الاخرى والخيرين ويحصل منهم على زكاتهم وصدقاتهم وينفقها على الفقراء.

أما الحارة فقد ظلت على عهدها، الفقراء يزدادون فقراً والأغنياء يزدادون غناء، وأصبح شيخ الحارة وناظر أوقافها كبيراً تجاوزت أعوامه الثمانين وشيئاً فشيئاً أصبح يترك أمور إدارة الحارة لزوجته وابنه، وأصبحت زوجته الست سكينة وابنها غسان يقرران للفتوات ماذا يفعلون ويصدران الأوامر لهم باسم شيخ الحارة الذي أصابه الهرم وجلس قعيداً في بيته الكبير المشرف على مدخل الحارة من الناحية البحرية، وبجواره بيوت الفتوة الأكبر للحارة الناطوري وبعده بقية بيوت فتوات الأحياء بقري وعتمان والسُّكَري وأبو دومة.

كثرت تدخلات الست سكينة وابنها غسان في إدارة شؤون الحارة، بينما انشغل ابنها الآخر علام في مشاركة التجار والأعيان فكان يفرض عليهم المشاركة في الأرباح دون أن يدفع لهم شيئاً في التجارة، في مقابل أن يمنع عنهم جزءاً من الإتاوة كان يفرضها عليهم الناطوري كبير الفتوات مقابل إدخال بضاعتهم للحارة، ومن يرفض تتم مضاعفة الإتاوة له أو يقوم الفتوات بمصادرة البضاعة منه، فاستسلم البعض منهم لذلك واستغلوها وربحوا كثيراً من ورائه، بينما غضب البعض من ذلك وكلم شيخ الحارة الذي قال يوماً للسيد نظير: فيها إيه لما علام يشاركك اعتبره زي ابنك؟ رجع السيد نظير والغضب يملأ قلبه وما هي إلا ساعات حتى أصابته جلطة قلبية قضت عليه، فكان عبرة لبقية التجار.

كان علام يحب فتيات الليل الجميلات، وكانت كل ليلة له سهرة معهن حتى مطلع الفجر، كانت لا تستعصي عليه فتاة يريدها، وإذا تمنعت فتاة فهناك طرق كثيرة للإتيان بها صاغرة منكسرة ذليلة، فالفتاة لديها أب وأم وإخوة وأخوات يمكن أن تطالهم جميعاً يده الباطشة، والتي لا يستطيع أحد الوقوف أمام بطشها الذي يستمده من قوة أبيه وبطشه ومن الفتوات الذين يقفون بالمرصاد أمام أي شخص يرفض تنفيذ أي طلب لعلام أو غسان أو الأب والأم.

ظل الحال هكذا خمس سنوات، وبدأ الغضب يظهر شيئاً فشيئاً في وجوه الفتوات من غسان، وأصبحوا يتحدثون فيما بينهم خلال السهرات على مقاهي الحارات بأنه لا يصح أن تتحكم فيهم امراة مهما علا شأنها، وكذلك لا يصح أن يتحكم فيهم عيل فرفور حتى لو كان ابن شيخ الحارة، فهو لم يتربى على حياة الفتوات مثل أبيه شيخ الحارة ولكنه تربى تربية عز ودلع بعيداً عن أصول الفتونة، ولذلك من العار أن يتولى منصب شيخ الحارة في حياة أبيه أو بعد وفاته، ولا بد لهم من "صرفه" معه ومع أمه الست سكينة.

تردد هذا الحديث كثيراً، حتى انتقل من أفواه الفتوات أو نقلوه عمداً إلى مغني الرباب وراوي الحكايات في المقاهي الريس حنتيرة، والذي جلس ذات يوم في مقهى الأحلام وأخذ يروي رواية زوجة وابن شيخ الحارة، وسط ترحيب كبير من المستمعين من فتوات وحرافيش، وكان الرجل يحمل غلاً مبطناً لشيخ الحارة الذي حرمه من أن يكون شيخ الرواة كما طلب منه ذات يوم، وقال له: كل قهوة لها راوٍ ولا نريد أن يكون في حارتنا شيخ للرّواة حتى لا يغضب منا الرواة في بقية المقاهي، فالجميع يجب أن يتغنى ويروي بطولاتي في الدفاع عن هذه الحارة.

عندما علم شيخ الحارة بما أفشاه الريس حنتيرة في قهوة الأحلام طلب صاحبها سيد بهجة وعنفه أشد تعنيف وأمره بطرد حنتيرة من قهوته إذا حضر مرة أخرى، وأن يحضر راوياً غيره، ففعل ما أمره به سيده، لكن السر كان قد ذاع وانتشر بين الحرافيش ولم تعد لهم سوى حكاية غسان ابن شيخ الحارة وأمه الست سكينة.

لم ييأس الفتوات من وجود طريقة لمنع الست سكينة وابنها غسان من التدخل في شؤونهم وفرض الأوامر عليهم، رغم أنهم كانوا لا يريدون رفع راية العصيان على سيدهم شيخ الحارة، لما له من سابقة فتونة، فقد كان الرجل حريصاً على أن يظلوا يتمتعون بامتيازاتهم بل وزيادتها مع مرور الزمن، وكان يكرمهم إذا حلوا ضيوفاً في بيته، وإذا كبر منهم فتوة وأصبح لا يقوى على العراك والضرب والدفاع عن نفسه كان يكرمه في آخر أيامه فيعطيه راتباً كبيراً أو يجعله موظفاً في نظارة الوقف وهو ما يدر عليه الكثير من الأموال، ولذلك أحبوه،

ووضعوه فوق رؤوسهم جميعاً، إلا أن حكاية زوجته الست سكينة وابنه غسان طيرت النوم من أعينهم، خاصة أن غسان لم يكن لهم يوماً محباً، وكانت له شلة خاصة من الأعيان والتجار من شركاء أخيه علام يستشيرهم في كل صغيرة وكبيرة في أمور الحارة، لكنه لم يطلب يوماً من فتوة منهم استشارة أو أعلمه بشيء مما يريد تنفيذه، وخافوا إن تركوه يتولى منصب شيخ الحارة بعد أبيه وأن يقضي على امتيازاتهم أو يقضي عليهم، فلديه نصيب من سطوة أبيه وعلاقاته بشيوخ الحارات الأخرى، كما أن لديه الأموال الكثيرة التي ورثها عن أبيه وشراكة أخيه مع كل الأعيان والتجار، ويمكن أن يستعين عليهم بفتوات من الحارة الأخرى.

كان المعلم سنباط يسير في طريقه التي بدأ فيها منذ سنوات طوال، يعلم الأطفال في الكتاب صباحاً، ويقدم المعونات للأرامل والمطلقات مساء، وزاد بأن أنشأ طريقة صوفية يجتمع في الزاوية الصغيرة في نهاية الحارة للذكر والصلاة على النبي، والتحق بها جميع من علمهم في الكتاب وأصبحوا الآن شباباً، كما التحق بها بعض أصحاب الحرف من الحرافيش والأرامل والمطلقات وكثير من الفقراء، فكانوا يجتمعون في الزاوية الصغيرة مساء كل يوم جمعة وينشدون أذكاراً كتبها لهم، ويظلون على ذلك بالساعات، وفي البداية غض الفتوات الطرف عنه، ولكنهم وجدوا أتباعه يزيدون يوماً بعد يوم، وأن هناك كثيرين أصبحوا يتعلقون به وأحبوه، بل أصبحت حياتهم تعتمد عليه وعلى جمعيته الخيرية، فخافوا على سطوتهم ونفوذهم في الحارة من هذا المعلم السنباط، وبدءوا في مضايقته هو وأتباعه، فيوماً ينتظرونهم أمام الزاوية ويضربون كل من يخرج منهم على قفاه، ويوماً يأخذون بعضهم إلى بيت أحد الفتوات ويجلدونه دون سبب، ويوماً يستولون على بضاعة أحدهم أو معداته إذا كان سباكاً أو نجاراً، أو بضاعته إذا كان بقالاً، ويوماً ينتظرون على باب الحارة فيأخذون كل ما تصل إليه أيديهم من أموال.

واشتد الأمر على سنباط وأتباعه، رغم أنهم كانوا يتحلون بالصبر وإذا ضربوا على قفاهم لا ينظرون حتى للفتوة الذي ضربهم، ويقولون دائماً: نحن في الخدمة وتحت الطلب يا سيد الفتوات، وكان سنباط دائماً يقول لهم أثناء الذكر: فاصبر صبراً جميلاً، وإذا ضربك الفتوة ابتسم له، وإذا طلب منك فقير حاجة أعطها له، وأنت مبتسم، لا ترفعوا يوماً نبوتاً في وجه فتوة، إننا نريد إصلاح حال الفتوات، ولا نريد أن نستبدلهم بفتوات آخرين حتى لو كانوا منا.

أصبح للرجل أصحاب مثل عليوة الفران وعبده البقال وحسن طعمية صاحب عربة الفول والطعمية الذي يبيع على ناصية الحارة، وآخر الزاوية، وسرعان ما وجه أتباعه بأن يتجهوا للنشاط التجاري، فالحرافيش أغلبية سكان هذه الحارة، واقترح عليهم أن ينظموا سوقاً كل يوم جمعة أمام الزاوية يفترشون الأرض ويبيعون ما تيسر من ملابس مستعملة وأواني طبخ وملاعق وأطباق وسبح وعطور رخيصة وغيرها.

وذهب واستأذن في ذلك كبير الفتوات بل والفتوات جميعاً الذين وافقوا بشرط دفع الإتاوة والتي وافق عليها هو وأصحابه، بل وقبلوا جميعاً أيدي جميع الفتوات، وبدأت السويقة أو السوق الصغيرة في نشاطها، وأصبح لها زبائنها من الحرافيش وكل أسبوع في زيادة وتوسع، وأصبح للدراويش من أتباع سنباط رزق وفير حتى غار منهم وحسدهم كبار التجار والأعيان في الحارة.

(جزء من روايتي حارة الدراويش)

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد