تجربتي مع السرطان (2)| عندما اخترق السرطان عظامي حتى وصل إلى الرئة

ما زلت أكتب الآن، أو بالأحرى أن ذلك الصوت الذي يقبع في داخلي هو الذي يمضي في أنامل غيري ممن يروُون قصصي على الملأ، أوَّلهم أمي، الصابرة، الداعية كل يوم.

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/11 الساعة 03:19 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/11 الساعة 03:19 بتوقيت غرينتش

الفصل الثاني: بعضٌ من حب أمي لي، كله قد يحتاج لسرقة لغات العالم لوصفه!

ما زلت أكتب الآن، أو بالأحرى أن ذلك الصوت الذي يقبع في داخلي هو الذي يمضي في أنامل غيري ممن يروُون قصصي على الملأ، أوَّلهم أمي، الصابرة، الداعية كل يوم.

ما لا تعرفه أمي أنني أسمع كلَّ شيء تقوله، وكلَّ دعوة وزَّعتها على أصحابها في مطالعِ كلِّ فجرٍ، وفي نواهي كلِّ ليلة قامتها.

ما زلت أذكر توديعها الاحتفالي لي، ورفقتها لي في أواخر أيامي، ووديعتها لله بي.

ما أريد قوله الآن إن أمي رافقتني في أشد أيامي وأصعبها، كنت إذا رأيتها مهمومة أقوم للصلاة وأكبر، وأستوي على فراشي لأهيّئ نفسي لليوم الذي سرق النوم من عينيها، كنتُ أعلم حرقة عينيها في كلِّ ليلة كذبت عليها فيها بأنني نمتُ حينها، كنتُ أعلم جلّ دعواتها لي في كل مرة لعبت دور النائم المبتسم، وذلك الحارق الكاوي يخترق دمي ويستعمرُ خلاياي.

لا شك أن الكثيرين ممن عرفوني عرفوا حبَّ أمي لي، ما زلت أذكر تشجيعها لي حين قرَّرت أن أعمل في أحد مطاعم العاصمة؛ عمّان، وسط نظرة الكثثرين ممن أرادوني أن أكون المريض المقعد العاجز، ووسط استغراب الأطباء المعالجين لي، وما زلت أذكر أنها حين أصبحت ترعاني كطفلها الصغير رغم محاولاتي الكثيرة لإثبات شدة عودي بعدما أكله دهر المرض، إلا أنها لم تكلّ يوماً من أن أكون محمولاً في قلبها كبيراً، كما كنت في يديها صغيراً.

يتراءى إلى مخيلتي الآن اليوم الذي تلى نتيجة فحص الرئة، اليوم الذي علمت فيه أن مرضي سيستعمر موانئ جسدي لا محالة، ومقدمة الطبيب المطوَّلة التي اعتدتُ عليها من الأطباء على شاكلته، والتسليم بقضاء الله، وكثرة الحوقلة حولي، كان كل ما استطعت قوله حينها وعيناي تجود بمرأى أمي "ااصحي تزعلي يما، ولا يكونلك فكر عادي"، قلتها لها وقد التفتّ لجانبي الآخر، حتى أرى أن الطبيب أنهى إعلانه الحصري لنا، ولكن جل ما أذكره في هذه اللحظة هو صوت أمي ونحيبها المختبئ خلف وجهها المؤمن، المسلم لقضاء الله.

إلى قارئي الآن، دعني أخبرك بسر كبير أخفيته عن ذاتي مكابرةً طيلة شقاوة طفولتي، وعرفته حين سلمني الله أمانة حب أمي، الأم تحت قدميها الجنان، ولكن أمي أصبحت جنتي بذاتها، أليس النور والملائكة ونِعم الدنيا من دلائل الجنان، وهي أمي!

صدقاً، لا أنفكّ أفكِّر في حبها لي، وقلبها الدافئ، ودمعها الحزين المختبئ وراء التجاعيد، وأيامها المملوءة بذكراي، وصوري الموزعة في هاتفها، ولا شك أن ما في قلبها من ذكريات وصور لي قد استباح سُكنى جوارحها، فلا شك بما أسمعه من أصدقائي هنالك، بأنها أصبحت ترى الكل محمداً!

نهاية الفصل الثاني

لا شك أن كتابة المذكرات، أو بعض مما نستطيع قوله وإخباره عن محمد عماد، رحمه الله، أمر سهل، لكن اللغة ذات البضعة والعشرين حرفاً بكافة تشكيلاتها واحتمالاتها لا تستطيع رصف بعضٍ من كلام أم محمد، وخصوصاً تلك الرسالة القائلة: "بدل ما أهوِّن عليه هو كان يهوّن عليَّ حبيبي)، أو تلك التي تقول: (بحي هو عايش بالصور وبيحكي معي بعيونه)، والكثير منها، الكثير من الآمال والحب والإخلاص المعبق بكلمات أم محمد كل يوم لي عندما أحادثها، ولم أعرف يوماً مَن الذي يحتاج لتطبيب جرحه وحزنه الطويل، هي أَمْ أنا؟ وأوراقي المرمية في جولات الذكريات الطويلة.

محمد عماد أصبح جزءاً من يومي، يحادثني وأحادثه طويلاً، صدقاً أنني لم ألقاه، ولكن ما أصدقه فعلاً أن عينَي أمه وحبهما قد حدَّثاني طويلاً.. طويلاً.. طويلاً!'

https://ifmsa-jo.org/blog/2018/2/7/–1" target="_hplink">مصدر القصة

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد