المرة الأولى التي سمعت فيها هذه الرواية لم ألتفت لها كثيرا، قلت: ما يهمني إن كان الرسول فكّر في قتل نفسه أم لا، هو أمر انقضى على كل حال ولا يؤثر على إيماني أو نظرتي لنبيي في شيء، وهو رد الفعل الطبيعي. فالنبي صلى الله عليه وسلم في النهاية بشر وربما عرَضَ له من عظيم الأمر ما اشتدّ عليه ففكر في احتمال كهذا.
ولكن ما أعادني للقضية أنها وردت أمامي مرة أخرى في سياق مختلف، بعد أن شاهدت محاضرة TED Talks للكاتبة البريطانية-الأميركية ليزلي هزلتون (Lesley Hazleton) تحكي فيه عن تجربتها في كتابة السيرة الذاتية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهي محاضرة قصيرة من أجمل الأحاديث التي سمعتها تناقش تلك الحادثة المحورية في التاريخ الإسلامي.
وقد كان أكثر الجوانب تأثيرا فيها هو الروايات المتعلقة بالليلة التي نزل فيها جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ورد في البخاري وغيره رواية تحكي عن ردّة فعل الرسول صلى الله عليه وسلّم بعد تلك المواجهة بينه وبين جبريل عليه السلام. فمحمد عليه السلام لم ينزل من الجبل تغمره البهجة والسرور، ولم تحفه ملائكة السماء لتنزل به من أعالي الجبل. لقد نزل عليه الصلاة والسلام مأخوذا بالتجربة، مهزوزا من هذا الحدث الذي قلب حياته رأسا على عقب، لقد انطلق هاربا باحثا عن ملجأ.
وللرواية صورتان أعرضهما باختصار لأن المجال لا يسمح بإيرادها كاملة:
الأولى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم فكّر في الأمر بعد نزول الوحي أول مرّة مباشرة، لشدّة وقع الأمر عليه، وظنّه بنفسه الجنون، فقال: لأعمدن إلى حالق من الجبل، فلأطرحن نفسي منه، فلأقتلنها، فلأستريحن.
والصورة الثانية: تقول إنه صلى الله عليه وسلم لجأ إلى هذا التفكير بعد أن انقطع عنه الوحي طويلا وبقي فترة تلت تلك الليلة بلا أي صلة تؤكّد له ما مرّ به وتريح نفسه. ويمكن لمن أراد ببحث بسيط على جوجل أن يصل للروايتين كما وردتا في المصادر المختلفة.
بطبيعة الحال هناك الكثير من النقاش والسجالات حول صحة الروايات أو عدمها، حول كيفية وصولها للبخاري، وحول أنها من الشبهات التي يجب أن يتم الردّ عليها والحرص على اندثارها. على الرغم من أن هذه الروايات قد تم تصحيحها كما تمّ تضعيفها وأنها قد وردت عدة مرات وفي صور مختلفة، إلا أن هذا التفاني في محاولة محوها دون تعليل واضح وصريح سوى أنه لا يليق بخاتم الأنبياء أن يأتي بمثل هذه الفكرة. وهذا اختصار لغالبية التعليقات الواردة على الفيديو بترجمته العربية، ليس النقاش العميق والمؤثر لردّ الفعل الإنساني لنبي الإنسانية، ولا الطريقة الجديدة في التعامل مع هذا الحدث التاريخي بصورة ترتبط بواقعنا الحالي.
سيتهمني البعض بأنني أتدخل في ما ليس من شأني، وأن علم الحديث له أصوله (مع العلم أنني لم أتطرق لصحة الحديث من عدمها)، وأنني أتجرأ على رسول الله، وأنني بهذا أروّج للانتحار والمنتحرين. وهي كلها اتهامات متوقعة جدا لأنها تستجيب للصوت القديم المزروع فينا والذي يتعامل مع رسول هذه الأمة على أنه ليس بشرا. مع أن الله سبحانه وتعالى يذكرنا مرارا وتكرارا بأنه بشر: "وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا (94) قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا".
ما يُلِم بكم من حزن وضيق ونفاد صبر وضيق من هذه الحياة ما هو إلا حالات طبيعية هي اختباراتكم في حياتكم الدنيا كما كانت له هو اختباراته النبوية
والله خلقنا وهو أعلم بما ستمليه علينا أنفسنا، سنريد أن نصنع من هذا البشري ملكا، وسنريد أن نضفي عليه من القداسة ما نتجاوز به الحد ونبتعد به عن رسالته التي قضى عمره يصارع من أجل أن يؤدي أمانتها الخيبات والويلات ونوائب الدهر التي تهد النفس وترهق الروح، وإلا فلماذا يكرر عليه الله سبحانه وتعالى مراراً:
* "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ" المائدة 41.
* "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ" الحجر 97 – 98.
"وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ" النحل 12.
* "فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ" الأحقاف 35.
* "وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا" الطور 48.
وغيرها من المواضع التي تعبر علنا عن الحالة النفسية للرسول صلى الله عليه وسلم وعن مواساة الله له، أفلم يكن من الممكن أن يضع الله في نفس رسوله السكينة التامة والصبر الكامل الذي لا يحتاج معه إلى أن يبذل مجهودا في تحقيق تلك الحالات النفسية؟ أليس حريا بنا أن تأمل الرسالة الإلهية في مثل هذه الآيات لأمة محمد؟ أنه بشر مثلكم وأنكم به مقتدون؟ لا في أمور العبادات الشكلية فقط بل في حياتكم الروحية وأوضاعكم النفسية؟ فما يُلِم بكم من حزن وضيق ونفاد صبر وضيق من هذه الحياة ما هو إلا حالات طبيعية هي اختباراتكم في حياتكم الدنيا كما كانت له هو اختباراته النبوية.
يقولون لك: حاشاه أن يكون قد فكّر في أمر كهذا! ثم تجد بعض من تصدى لتكذيب الروايات ينهي نقاشه بعبارات مثل: وحتى إن صحت الرواية فهي لا تعيبه في شيء صلى الله عليه وسلم، أو أن كونه همّ بالأمر لا يعني أنه كان ينوي فعله حقيقة، فقد همّ يوسف بامرأة العزيز ولكن الفعل لم يقع منه.. إلى آخر ذلك ردود على قضية لم يرَ أحدٌ فيها شبهة، إلا من أراد أن يخلق من النبي البشري الذي تكمن روح رسالته في بشريته، أراد أن يخلق منه بشرا غير البشر، ويضعه في مكان بعيد لا يمكننا أن نقترب منه أو نلمسه، وكأنه لم يُرسل لنا مثالا نحتذيه، وكأن الهدف من خلقه بشرا ليس أن نرى الإنسان في ضعفه وقوته كيف يتعامل مع إلهه، وفي فقده وفي اكتسابه، وفي راحته وفي تعبه، وحتى في خطئه، فترى الله يعاتب نبيه في كتابه أمام العالم أجمع:
* "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" [التحريم: 1، 2].
* "عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ * وَهُوَ يَخْشَىٰ * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَة * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ *" [عبس: 1- 16].
* "عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ" [التوبة: 43].
* "وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ" ]الأحزاب: 37[.
أفبعد هذا يأتي أحدهم ليتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه بعيد عنّا، لا يشبهنا، ولا يمكننا أن نرى فيه أنفسنا وأهلينا؟ للأسف إن طريقة تعاملنا مع شخص الرسول الكريم ومع سنته النبوية تسببت في فساد عظيم حلّ بهذه الأمة، التي وضعت بينها وبين نبيها حاجزا لا ترى من خلفه سوى بعض الصفات الشكلية والعادات اليومية.
ولو أننا تأملنا هذا الإنسان البشري العظيم في حالاته كلها، لوجدنا فيه ما يقربنا منه أكثر وما يحببنا فيه أكثر وما يجعلنا أكثر تمسكا وتأثرا بهديه من كل قصائد المدح وعبارات التبجيل. فهو مبجلّ بتفوقه في صراعه مع نفسه وبشريته، في تحمله لكل ما ألم به من جرّاء حمله لهذه الرسالة، ولفكرة أنه خاتم الأنبياء، وهي فكرة وحدها كفيلة بأن تزلزل أي كيان.. فاللهم صلَّ عليه وسلّم وبارك واجزه عنّا خير الجزاء.. واجمعنا به وهو راض عنّا.. ولا تجعلنا ممن يقول لهم: سُحقا سُحقا.
هذه التدوينة منشورة على موقع مدونات الجزيرة
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.