لطالما استوقفتني وحازت انتباهي بجدارة أسئلة الأطفال عمَّا يرونه مِن حولهم، يسألون عن الألوان كيف نراها، والسماء وما فيها، يسألون مِن أين أتى العصفور الصغير، وكيف يطير، يسألون لما أشكالنا وملامحنا تختلف عن بعض، وأين يذهب الطعام الكثير الذي نأكله، وغيرها من الأسئلة… كل شيء تقع عليه عيونهم، أو تسمعه آذانهم، أو يلمسونه بأناملهم يسألون عنه، كيف؟ ولماذا؟ وأين؟ ولما؟!
إن الأطفال بطبيعتهم لديهم عقلية العالِم المفكر، والعالِم المفكر لا يبحث عن معلومة مجرَّدة فحسب، ولكن أكثر ما يستهويه يكون رحلة استكشافه وتجاربه نفسها، بكل ما تحويها من خبرات ومهارات لا توزن بالذهب، حتى لو لم يصل لما كان يخطط له، فهو على أتم الاستعداد أن يستقبل من الكون ما أراد تقديمه له، وحتماً جهده سيوصله لمكان ما، حتى وإن كان غير ما توقعه.
كذلك الأطفال إذا جُردِّت العلوم المقدَّمة لهم من فحواها الحقيقي، فإنها تئد روح العالم المفكر بداخلهم، وتتحول نفوسهم اللاهفة بالفطرة للعلم إلى "صندوق فضلات"، يملأ بأشياء تسمى معارف، ولكنها بالنسبة إليه لا قيمة لها، هو فقط يحملها لحين سكبها في ورقة تسمى الاختبار كلما أفرغت فيها فضلات أكثر، كلما لقيت استحساناً أعظم، وبعد الاختبار تتنفس الحرية قليلاً، قبل أن يُعاد ملئك من جديد بفضلات جديدة!
إحدى ورش العمل التي أقدمها للأطفال، التي كانت عن علم الفلك، وبالتحديد عن "كوكبات النجوم"، التي تعني أشكال النجوم في السماء والخرائط النجمية، كانت من المفترض أن تمتد الورشة ساعة، مقسمة على ثلاثة أقسام: القسم الأول نطفئ الأنوار وننام على الأرض فوق قطعة القماش السوداء التي نجلس عليها، وباستخدام كشاف وبضعة أطباق من الفلين، وبها ثقوب بنفس تكوين أشكال النجوم في السماء، نوجه الكشاف على سقف الغرفة، فتمر من خلال الثقوب حزم صغيرة من الضوء، وتظهر الخرائط النجمية على السقف، القسم الثاني كان ذكر معلومة بسيطة عن الكوكبات، وأسمائها، ولِمَ هي مهمة، القسم الأخير كان تسجيل الأطفال لما تعلموه بالرسم والقص واللصق في (كتيب الفضاء) الذي صنعوه بأيديهم.
ما حدث أن الأطفال أمضوا القسم الأول لساعة وبضع دقائق، فقد استغرقوا تماماً في الفضاء البسيط الذي تخيلناه، حتى إن عيونهم لمعت كما لو كانوا حقاً يحلّقون في الفضاء الحقيقي ويلمسون النجوم بأيديهم ويحركونها ويشكلونها كما يريدون.
في تلك الساعة علموا أنفسهم عن الكوكبات وأشكالها وأهميتها، أكثر بكثير مما أردت أن أعرفهم عليه، ثم شكلوا في كتيباتهم الصغيرة الكوكبات، وقد تفنَّن بعضهم في إضافة بعض التفاصيل الرائعة لها، فمنهم من رسم كوكبة الأسد بلبدة ملونة بديعة، ومنهم من أضاف طفلاً صغيراً في مركبة فضائية، يَستدل على طريقه في الفضاء الشاسع عن طريق كوكبة سمَّاها باسمه، قد اكتشفها من قبل في رحلة سابقة.
يا لسذاجتي، وأنا كنت أظن إني التي أعلمهم! لقد أضافوا لتلك المعلومات المجردة خبرة حية، وعاشوا تفاصيلها بدقة، حتى إنني استغرقت تمام الاستغراق، ونسيت حدود الزمان والمكان معهم!
إليك أشياء أساسية عليك أن تهتم بها وأنت تقدم العلوم للأطفال:
1- لا تتجاهل الأسئلة، كل سؤال -مهما بدا ساذجاً- هو نواة زهرة تتفتح بالعلم والتفكر، فلتجعل أسئلة الأطفال هي ملهمتك في تقديم العلوم لهم.
2- البساطة في العرض: عندما يسألك طفل، سِنه صغيرة، كيف نرى الألوان، وأخذتَ قراركَ أن تشرح له، يمكنك أن تحدِّثه عشرات المرات عن الطول الموجي لكل لون، وانعكاس الضوء وشبكية العين، ولا يفهم حرفاً واحداً مما قلت، أو يمكنك القول إن الشيء الذي نراه يمتص كل الألوان، ويعكس فقط لوناً واحداً خارجه، وهو الذي نراه، كلما كان الأمر بسيطاً آتى ثماره.
3- التدرج: لا داعي أبداً لذكر كل ما تعرفه عن أمر إذا سئلت عنه من طفل، فأقْيَم ما يملك الطفل هو فضوله، فلا تجعل هدفك هو إشباع فضوله ليسكت، ولكن أن ينمو فضوله حدَّ الكون بأسره، ولا تقلق طالما وجد الفضول سيصل لما يريد.
4- البيئة المحيطة: عكس الشائع، كلما كانت البيئة التي يتعلم فيها الطفل أقلَّ تحفيزاً تمدَّد معك خيالُه، فالحوائط الملونة واللوحات ذات الرسومات، والسجاد المليء بالنقوشات لن يساعد الطفل على التحليق معك لعوالم أخرى.
5- الأدوات: أنت لا تحتاج إلى أدوات غالية الثمن ووسائل تعليمية مبهرة لتعلم الطفل شيئاً ما، بل إن بعض المواد الأولية والخامات تصنعون منها معاً بأيديكم شيئاً بسيطاً، ستكتشف أنه أقيم وأكثر أهمية للطفل من نماذج جاهزة لا يرتبط بها الطفل بأي صلة ولا تعنيه.
6- التواصل: علاقتك بالطفل هي الأساس لاستقباله منك، فإن وصلت لقلبه وروحه وصلت لعقله!
إن العلم ليس أن يعرف الطفل أكثر، ولكن أن يعرف كيف يتعلم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.