في رحيل أبي

لا أدري كيف استسهلتُ فكرة زيارتكَ وأنتَ تحت التراب، أو حتى فكرة إيداعك في جوف الأرض؟ أي قلب امتلكناه عندما وافقنا على كل هذا البعد يا أبي؟ إن الفراق الذي يحياه قلبي مذ رحيلك قطّع أوصالي حتى مع نفسي، ما عدتُ قادرة على فهم كل ما يدور حولي، كل شيء علّمتني إياه تبدل مذ رحيلك، المبادئ والشخوص والنفوس والأعراف، ما عاد شيء على ما هو عليه.

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/08 الساعة 00:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/08 الساعة 00:07 بتوقيت غرينتش

لا أدري كيف استسهلتُ فكرة زيارتكَ وأنتَ تحت التراب، أو حتى فكرة إيداعك في جوف الأرض؟ أي قلب امتلكناه عندما وافقنا على كل هذا البعد يا أبي؟ إن الفراق الذي يحياه قلبي مذ رحيلك قطّع أوصالي حتى مع نفسي، ما عدتُ قادرة على فهم كل ما يدور حولي، كل شيء علّمتني إياه تبدل مذ رحيلك، المبادئ والشخوص والنفوس والأعراف، ما عاد شيء على ما هو عليه.

جئتُ إليك أوسد فيكَ كل آهاتي، أبوح لك بأوجاعي وتعبي وتعثري في الحياة، جئتُ على أمل أن تحتضنني، ولكن عبثاً أردت، أخشى أن يكون الأموات على غير دراية بما خلّفه فقدنا لهم، أخشى ألا يكونوا على علم بما يحتلّ القلب من خوف وجزع ومرارة عقب الفقد، ولكني أخشى في ذات الوقت على قلبك الذي كان متعباً من أن يعلم ما حل بطفلته، أخشى عليك التعب وأنتَ ميّت، أخشى عليك كما لو أنك على قيد الحياة.

أبي، وبنداء الفقد المفزع أناديك، أبي، وبصوت الحشرجة الكامنة في حنجرتي أناديك، وبأنين القلب المتعب بفقدك أناديك، أتعلم يا أبي، إن الأمر المخيف أكثر بالنسبة لي أن الأيام التي تواصل تعاقبها مذ رحلت لم تحمل لي إلا كل وجع وقهر، لم تحمل خيراً في طياتها، وكأن الله حين ابتلاني بفقدك كتب أقداري بحروف الابتلاء، وكأني أملك كل هذه القوة لأجابه العالم وحدي، أتألم وحدي وأذبل وحدي وأعيش الصمت وحدي، أنا حقيقة لا أعلم إن كنتَ تعلم أخباري، ولكني أعلم أن الأرض التي احتضنتك أسعد مني حتى في جمادها وجمودها وبردها الشتوي وحرّها الصيفي، هي أسعد مني رغم أنها لا تملك المشاعر لتخبرك بذلك، كما لو كنتُ أنا مكانها، ويُسمح للروح أن تدفن فيها روح من أحبت، لدفنتك فيّ ولقلتُ لك حينها إنني بك أقوى وأسعد، آه يا أبي لو أن العمر يهدي لأهديتك عمراً فوق عمري، لو أن الروح توهب لوهبتك أنفاسي وروحي، لو أن الجسد يُستبدل لأبدلتُ قلبك الذي كان متعباً بقلبي الذي كان سليماً إلا بعد فقدك.

هدمتني معاول الحزن شيئاً فشيئاً حتى صرت لا أنا من بعدك يا أبي، حتى تبدلت ابتسامتي بحزن ودمعة، انطفأت شمعة طفولتي وأحلامي البريئة، بدلني الظلم كثيراً، بنيت من نفسي صخراً لكي لا يلين يوماً ويتكئ على بشر؛ لأن الناس الذين وثقت بهم غادروني كأنت؛ لأن الناس الذين أحببتهم يوماً تركوني وحيدة كأنت، ولكنهم جافوني إرادة وأنت جافيتني قدراً.

أعلم أني أكتب وكل الناس ستقرأ كلماتي ووحدك لن تفعل، ولكنك ربما ترى حال دموعي التي تُذرف مع كل حرف يُكتب هنا، أنا يا أبي لا أشكو لك الفقد فأنت عايشته قبلي؛ إذ فقدت على صغرك أمك وأباك، ولكني كلما وهنت بيني وبين نفسي أتساءل هل كان أبي قوياً إلى هذا الحد الذي جعله يمضي في حياته رغم نتوءة الفقد التي ظلّت تتغذى على قلبه حتى أضعفته ورحل مريضاً بوجع القلب والفقد؟! ألهذا الحد أراد الله لي أن أكون قوية بقوة أبي؟

إن الفقد يا أبي إذا حلّ روحاً لم يرتحل عنها، بل أفقدها كل ما حولها، وكأن كل مَن يكتب عليهم قدر الفقد مرة، يكتب عليهم كل مرة ألف مرة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد