لطالَما كنتُ تلكَ الفتاةَ الهادئةَ، أجلِسُ طويلاً خلفَ كتابٍ، أو أخرُجُ إلى حديقةِ بيتي لأتأمّلَ ألوانَ السماءِ لتُلهِمَني على الكتابة… هِوايَتي الوجوه، تستهوينِي الوجوهُ، تلك الوجوهُ المتجعِّدة، وخطوطُ الجبين العريضة، تستهويني العيونُ ذاتُ النظرةِ الحادّة، تلك العيونُ الحزينةُ، العيونُ الحالمة، تلك المتشائمة، والمتفائلة.
لطالما عرَفتُ كيف أقرأُ الوجوهَ وأَصِفُها لأمي التي تضحكُ مِن وصفي، وتقولُ لي: "لا تبالغي"، أمشي بالشارع، أنظُرُ حولي، على الرأسِ بضعُ بياضٍ متناثرٍ أو غطاءُ رأسٍ ملتفٍّ بقُصاصاتِ قماشٍ هالِكة. على الخدِّ شاماتٌ بعدَدِ السِنين، أؤمِنُ أنا أنَّ كلَّ العيونِ متلألئةٌ، وكلَّ الوجوهِ مضيئةٌ، وكلَّ القلوبِ طيبةٌ، في الحياة هذه، الناسُ صامدةٌ، عاملةٌ وحالِمة.
أكثرُ ما يستهويني هو الحجاب.. هل أنا مقتنعةٌ بالحجاب؟ هل الحجابُ أساسُ إسلاميَّتي؟
خلفَ الحياةِ التي نعيشُ هناك موتٌ، وحربٌ، أعرِفُ المفارقةَ، المفارقةُ بينَ الحياةِ والموتِ، كالمرافقة بينَ الشيءِ ولا شيء، خوفي من الموتِ هو ما يستدعي سؤالي عن الفروضِ التي أُمِرنا بها..
لا يُمكنني أن أُنكِرَ أنّ الحجابَ فرضٌ سنحاسَبُ عليه، هو خيارٌ مُجتمعيّ في مُجتمعي الذي أعيشُ فيه، لكنه فَرضٌ عقائديّ في ديانتي وإيماني، أعرِفُ ذلك جيداً ورغمَ ذلك لا أعرِفُ كيف يُفلِتُ مني شعورُ الخوفِ كُلّما اقتنعْتُ و اقتربْتُ إلى ارتدائه، فأتقدّمُ خُطوةً لأتراجَعَ بخطُوات، وأنا التي لا ارتدي سوى تلك الملابسِ الطويلةِ الفضفاضة، وأقرَبُ ما يكونُ لمُحَجَّبةٍ دونَ حِجاب، أنا التي لا تنسى فروضَها، ولا تؤجِّلُ شيئاً إلى الغدِ، ومنذ صِغَري من مرتادي دُور حِفظ القرآن، أُجِيدُ تجويدَهُ وأتعلَّمُ تفاسيره. فكيف يكونُ قرارُ ارتدائهِ بهذه الصعوبةِ على نفسي؟!
أرتديه قليلاً في البيت أضعُهُ بعفويّة، يُفلِتُ فأجرِّبُ آخَرَ، محاوِلةً تثبيتَهُ بلا جدوى أجرِّبُ آخَرَ، فأفلِحُ أخيراً بعدَ عناء، فتضحَكُ صديقتي وتقولُ لي ياه كم تغيَّرَ شَكلُك، وتتبعها بجملة مجاملة، "لكنّكِ تَبدِينَ أجمل"..
وأنا التي أقِفُ عاجزةً أمامَ تلك التي تضَعُ حجابا وترتديهِ لتظهَرَ بأجملِ وأروعِ حُلّة، وكأنّ قِطعةَ القماشِ هذه لا تزيدُها إلا جمالاً وأناقة، أقِفُ احتراماً وإجلالاً لها، لأنّني أدرِكُ صعوبةَ كلِّ ما يكمُنُ في دواخِلَ هذا الحِجاب، هذا الحجابُ الذي يأخذُهُ البعضُ كشيء مُسَلَّمٍ به، أعرِفُ أنا أنّه ليس أمراً سهلاً، أراها تُعاني في قَصِّ شعرِها، لأنّها إنْ قصَّتْه قصيراً سيَصْعُبُ عليها ربطُه، وإنْ تركَتْهُ طويلاً سيتناثَرُ مِن وراءِ الحِجاب، أعرِفُ أنها تحبّ ارتداءَهُ لكنّها تتذمّرُ أحياناً أنها لا تجدُ عندَها حجاباً يتماشى مع ألوانِ ردائِها ذاك، أعرِفُ أنّها تحِبُّ الخروجَ لكنّها تشعرُ بالحرِّ في جَوٍّ كهذا فتُفَضِّلُ البقاءَ في البيتِ، أعرِفُ أنّها لا تأبَهُ بكلامِ الناسِ لكنّها حينَ تُسافِرُ تجِدُ كلَّ الأنظارِ عليها.
هي التي تشعُرُ في الخوفِ لِلحظاتٍ ثُمَّ يتبدَّدُ خوفُها ليصبِحَ سعادةً، بعد أن تُبادِلَها امرأةٌ عجوزٌ ابتسامةً رداً على ابتسامتِها، هي التي تظُنُّ أنّها ستُغَيِّرُ أفكارَ الكونِ كلِّه بحجابِها هذا، ولَرُبّما تفعَلُ، هي الفتاةُ الملتزِمةُ التي تشعُرُ بكلِّ الثقةِ الموجودةِ في الكونِ وهي تُمرّرُ سجادةَ الصلاةِ مِن بينِ الجالسين، وتصلّي صلاتَها لتلتفِتَ العيونُ إليها، هذا النوعُ من الجمالِ الآسِرِ، تلك المؤمنةُ بعقيدتِها، والمتمسكةُ بكلِّ رَمَقٍ منها، تستهوِي انتباهي أكثرَ من أيّ شيء، ما أجملُ مِن فتاةٍ لها خصوصيَّتُها، تتجسَّدُ كأميرةٍ أسطوريةٍ خالِصةٍ، بأحاديثِها عن الحبِّ، والإيمان، تلك التي تحمِلُ معَها صلاةً وجمالاً وحُبّاً إلى كلِّ مكانٍ تذهَبُ إليه، تلك الناجحةُ القويةُ الصافيةُ النقيةُ، المنتِجةُ المبدعةُ، هكذا كانت تمزجُ كلّ شيءٍ بقليلٍ من النورِ الذي يُضيء في ثنايا قلبِها..
أغبِطُها كثيراً وأتمنّى لو كان لي من الشجاعةِ ما تملِكُ تلك الفتاةُ المحجبةُ.. مؤمنةٌ أنا أنّ الحجابَ ليس زِيّاً ترتديه المرأةُ على رأسِها وتخرُجُ به، أؤمن أنا أنّه أسلوبُ حياةٍ، وأعرِفُ أنّني قريبةٌ جداً من أسلوبِ الحياة ذاك، فلماذا أهاب ارتداءَه، وأنا التي أنتَقي من اللباسِ ما يَمنَحُني شعوراً بالراحةِ ابتعاداً عن أعيُنِ البشر، وأختارُ السكوتَ وأنتقي كلماتي كلّما لزِمَ الأمرُ لحديثي.
أدعو اللهَ كثيراً أن يهديَني إليه، و أعرِفُ أنّ ما بي هي الهداية، فكيف لي أن أتجاهل ما أعرِفُ أنّه هدايةٌ من الله؟!
– تم نشر هذه التدوينة في موقع مدونات الجزيرة
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.