كنتُ أفضِّل أن أرى علامات الارتباك والخزي ولا أخمنها لذلك الوجه المسودّ حين يقرأ سطوري التالية، بعد أن اعتقدَ أن أفعاله قد طواها الزمن، وأن ذاكرة تلك الطفلة، أو ذلك الطفل كانت مغيبة تماماً في لحظتها، وأنها لن تحتفظَ بفعله الشنيع الذي أرادَ به إطفاء غرائزه الحيوانية، التي لم يستطع عقله بكل إمكاناته أن يردعها، وحين تنتصر الرغبة على العقل فلا ينفعُ حينها أن نحتسبه علينا كـ"إنسان".
أجريتُ العامَ الماضي دراسةً مصغَّرة عن أحداث التحرش بالنساء والأطفال، من الإناث والذكور، وكانت قصصهم المؤلمة كالصفعة على وجهي، حيث جعلتني أنقل البحث من دراسة عن التحرش بشكله العام إلى التحرش بالأطفال، من الأقارب من الدرجة الأولى!
وهذه المرة لن يكون مقالاً أتحدثُ فيه بطريقة السرد، وإنما بأسلوب المخاطبة.. والخطاب اليوم، لك أنت!
كلمة "أنت" التي تتمثل بصفة كل متحرش بأقاربه الأطفال، من الإناث وحتى الذكور.
لك أنت.. لأذكرك بماضٍ ظننتَ أنه لن يُحفظ يوماً في سجلات غيرك ممن تحرشتَ بهن، وأصبحنَ الآن فتياتٍ وربما أمهات حَكَمَ القدرُ عليكم أن تبقى رابطة العائلة تجمعكم في كل مناسبة واجتماع عائلي، وتضطر هي أن تخفي إعياءها وبغضها لك، تحت ابتسامات المجاملة حتى لا تسمح للاستفسارات أن تنهال عليها من عائلتها، عائلتها التي سوف تخسرها إن نطقت بجريمتك المخزية، فإما يُقضى عليك، وإما أن يقضى على كليكما -نفسياً وربما جسدياً- في مجتمع ذكوري جاهل لا يرحم.
أنتَ الذي سوف تتفنن بمهاجمتي وشتمي بعد قراءة كلماتي هذه، رغبةً منك بالتستر على فضائحك المنسية، أو التي كنتَ تتمنى أن تكون كذلك! رغبة منك في محاولة تطهير مجتمعك، وإبرازه بأنه المجتمع المثالي الذي يخافُ الله، وأن بناتك ونساء عائلتك لن ولم يتعرضن لتلك الأمور، طالما أنكم نجحتم في إقفال الأبواب أمامهن، وإجبارهن على العيش عيشة ضنكاً، خوفاً من أن يتعرضنَ لنسخٍ أمثالكم، وكأن ربط حياتك بالإناث هو من سيمحو خطيئتك، أو سيمنحكَ الشرف، وأنتَ العديم منه.
وحتى مصير الأطفال الذكور -الذين قمتَ بارتكاب فعلك الشنيع بهم- فأمرهُ مختلف من طفل لآخر، فأنت إما أن تجعل منه متحرشاً بالأطفال على شاكلتك حين يكبر، أو أن يصاب بالرهاب الاجتماعي، أو تصيبهُ بعض الأمراض النفسية، أو تلازمه بعض نقاط الضعف وفقدان الثقة بإقامة علاقات جدية… أنتَ، ومن أجل غرائزك الحيوانية القذرة تقضي على نفسية شخص كامل طوال حياته -بلا مبالغة- وأتعمَّد ربطك بغرائز الحيوان، لا بحيوان كامل حتى لا أعطيك شرف التشبه به.
ثم يصرخ المجتمع في وجهي: كيف لكِ أن تتجرئي على التحدث والكتابة عن هذا الأمر، الذي يحدثُ في حالاتٍ نادرة، وضمن العائلات التي لا تخاف الله؟! وسوف تثور عليَّ تلك الأنثى الخائفة قبل مرتكب الفعل حتى؛ لأنها اعتادت أن تُخرس كل ما ترى، وكل ما يحدث؛ لأنها عشقت دور الدرجة الثالثة في الحياة، ولأن الجُبن يرضي ذكور عائلتها..!
وأنا أجيب بقلمي الذي لن يصدح إلا بكل حق، أن كل هذه الجرائم تحدثُ في كل يومٍ، وفي كل ساعة، وفي المجتمعات المنغلقة، وتلك التي تتستر برداء الدين والعفة والتقوى، لأنهم تشبّعوا بالكبتِ والقمع، ولا أنكر بذلك أنها لا تحدثُ في المجتمعات المنفتحة، ولكن للمجتمعات المنغلقة الحصة الأكبر بها، لأنهم صوَّروا الأنثى أنها جسد بلا روح، جسد لمتعة الرجال وإسعادهم في الحياة…
التحرش فظيع ومرفوض بكل صوره، لكن التحرش الذي يأتي من الأقارب هو الأخطر على الإطلاق، لأنه في كل يوم يرى المتحرَّش به من تحرش به في صغره سوف يموتُ ألف مرة، وسوف تلاحقه أشباح ذلك الماضي البائس، وتندلع حرب صامتة باردة لا نرى ملامحها على الوجوه الباسمة. وفي كل مرة كانت تروي أمامي بعض الفتيات قصص من تحرش بهن من أقاربهن، كنتُ أرى نفس النظرة الشاردة في أمر ما في البعيد، تروي ما حدث بلسان طفلة خائفة، تحاول استذكار أمرٍ لم تكن تفهم ما هو حينها.
ثم تعود للواقع تتمالك نفسها من جديد.
إن بقينا نتستَّر على مشكلات المجتمع ولا نواجهها -مهما تكن درجة خطورتها- فسوف نحصد نتائج أفظع على المدى البعيد، وإن أصبح بيت العائلة بؤرة الخوف والتخبط عوَض أن يكون السند وبر الأمان، فسوف يزيد بذلك عدد أولئك الموتى على قيد الحياة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.