أكتب لكم من واقع تجربتي التي مر عليها أحد عشر عاماً من الاغتراب، وليست مجرد تجربة حديثة الولادة، أو تجربة فردية، بل هي تجربة جماعية يعيشها الكثير من المغتربين – أمثالي – في بلدان الخليج العربي على وجه التحديد.
تغيرت الصورة النمطية للمغترب في بلاد الخليج في الآونة الأخيرة، فتحول المغترب من مغترب حاصل على إجازة بدون مرتب من وظيفته أو منقطع عن عمله بشكل مؤقت إلى مغترب لا يعرف متى سيعود إلى وطنه، بعكس ما يدّعي الرائع "حمزة نمرة" في أغنية "التغريبة" التي يقول فيها:
لو طالت المسافات *** أنا والأم إخوات
وتالتنا كان الليل *** ده أنا ليا فيها النيل
وليها فيا الروح *** ما اخترتش إني أروح
ما أنا جوعي كان كفران *** ملعون أبوك يا طموح
أخرك تشوف لي كفيل *** لكني مش قلقان
تذكرتي رايح جاي *** أنا مش في بلدي عويل
أعتقد أن "حمزة نمرة" عدل عن رأيه مؤخراً، وأصبح هو الآخر يبحث عن "كفيل" بعد ما آلت إليه الأمور مؤخراً في مصر وشقيقاتها من بلاد الخريف – الربيع سابقاً – العربي، وأكاد أجزم أن حمزة نفسه قرر أن تكون تذكرته "رايح" فقط.
على أية حال، الكثير من المغتربين – وأنا منهم – عقدوا أمرهم على أن تكون تذكرتهم "رايح" فقط من قبل تردي الأحوال، بسبب الثورات المضادة وموجة العقاب الجماعي التي تخضع لها شعوب الخريف العربي، وذلك لانعدام فرص عمل حقيقية في بلدانهم منذ عقود حتى ولو بربع أو بخمس مدخولاتهم في الخارج، وإلا لما بقوا في سجن الغربة الأبدي.
نبتعد قليلاً عن المغترب ونذهب لمصطلح المتلازمة في علم النفس، التي يتم تعريفها على أنها عبارة عن "مجموعة من الأعراض والعلامات signs and symptoms التي تصف بمجموعها مرضاً معيناً أو اضطراباً نفسياً، أو أية حالة غير طبيعية"، بينما تتعدد تعريفات الاغتراب كما يلي:
– لغوياً: الاغتراب في اللغة العربية هو "الابتعاد والنأي والانفصال".
– نفسياً: الاغتراب عند فروم هو "الفشل في التفاعل بين العوامل النفسية والعوامل الاجتماعية".
– اجتماعياً: الاغتراب عند هيغل هو "انفصال الذات عن الجوهر الاجتماعي، وهذا ينتج عن انعدام وعي الفرد بحقيقة وجوده واستسلامه وتنازله عن حقه في السيادة على نفسه للآخرين، أي تنازل الفرد عن استقلاله وتوحده مع الجوهر الاجتماعي".
ولا أستطيع التغاضي عن تفسير كارل ماركس للاغتراب بأنه عبارة عن أوضاع يمر بها الإنسان، فيصبح فيها غريباً أمام نفسه، ويترتب على ذلك نوع من فقدان الذات نتيجة لأزمات اجتماعية يمر بها المغترب.
تجدر الإشارة هنا إلى حقيقة الاغتراب في الوقت الحالي، فالمغترب هنا يعاني من اغتراب نفسي واجتماعي معاً، حتى وإن تطورت التكنولوجيا وتمكّن الإنسان من التواصل مع ذويه على مدار الساعة، ولكن يظل للاغتراب اليد الطولى في هذا الشأن.
انتهت التعريفات هنا ونعود للمغتربين مرة أخرى الذين لا يعلمون متى ينسدل ستار الغربة عنهم ويعودون لأوطانهم مرة أخرى؛ ليستمتعوا بما تبقى من أعمارهم بين أهليهم وذويهم.
تكمن المشكلة الحقيقية ما بين الرغبة في العودة إلى حضن الوطن القاسي، أو الاستمرار على أرصفة الغربة الأشد قسوة، وتلك الضبابية ما بين الرغبة وعدم القدرة تقود المغترب مباشرة إلى خلل عقلي أو اضطراب نفسي على أحسن تقدير.
ربما يقول لي شخص ما: "يا عم احمد ربنا على النعمة اللي انت فيها هو حد يطول يهرب من أم البلد دي"!
أقول له: يا عم بنحمد ونشكر ربنا والله، ولكنني أطمح في الحصول على حق تقرير المصير ولا شيء أكثر من ذلك.
لا أبالغ حينما أقول إنني ما جالست شخصاً مغترباً خلال سنوات الغربة الماضية ورأيته قد حسم أمره وحدد متى أو كيف سيعود؟ وهذا ما أسميه بـ"متلازمةُ المغتربُ المَرَضِيّة".
أنا – بكل فخر – لا أعاني من هذه المتلازمة المرضية؛ لأنني ببساطة لا أعرف متى سأعود، ولكنني لا أخفيكم سراً أنها بدأت تتسلل رويداً رويداً إلى نفسي، وخاصة بعد الدخول في غمار الثلاثينات من العمر.
أنت الآن يا صديقي المغترب – الذي لا يهتم به أحد – في مفترق طرق، وأقترح عليك حزمة مقترحات يمكنك تجاهلها إذا أردت:
– تضع خطة زمنية للرجوع (إذا كنت من أنصار نظرية العودة للوطن الأم) حتى لا يسرقك العمر وأنت في الغربة.
– أو تبدأ في إجراءات الهجرة حالاً (إذا كنت من أنصار نظرية الفرار من الوطن الأم) حتى لا يسرقك العمر في بلاد الخليج التي لا تمنح جنسية أو حقاً في إقامة دائمة.
– أو تستفيد من وضع الاغتراب الحالي مادياً على الأقل (إذا كنت من أصحاب المتلازمة المذكورة) حتى لا يسرقك العمر وأنت تحجز تذاكر وتشتري هدايا "ومقضيها رايح جاي".
– أو تذهب للغداء وتنسى أنك مغترب، وهذا هو ما يفعله الكثير من الإخوة المغتربين، حفظهم الله ورعاهم.
المهم، أخبار المتلازمة معاك إيه يا صديقي المغترب؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.