بعد لحظة الصمت الطويلة، وبعد أن تنحنحتُ، أكلمتُ كلامي قائلاً بلا مُبالاة: عم الصمتُ المكان، دون أن أُبدي استيائي من كلام د. عصام، وحتى دون أن أُبدي أي رد فعل مضاد على تصرفه هذا، لكنني شعرتُ بأنه قد انتزع قلبي من مكانه، وقام بسكب ماء مغليّ عليه، ومن ثم قام بتقطيعه أمامي بسكين مُثلمة الأطراف، وفي النهاية لاكه في فمه ثم بصقه.
شيئاً فشيئاً بدأت أستوعبُ ما يدورُ من حولي، وشيئاً فشيئاً بدأ قلبي بالعودة إلى مكانه بعد أن اجتمعت أجزاؤُه مع بعضها مرة أُخرى، في تماسك أقوى من السابق، وبدأت نبضاتُه بالعودة إلى طبيعتها من جديد.
نظر محمود نحوي مصدوماً بعد أن فتح فمه، وقال لي والذهول بادٍ على وجهه: بعد كل الجهد الذي كنت تبذله، أحقاً قال لك هذا؟!
هززتُ رأسي مُبتسماً، وقلتُ له مُقهقها: نعم، بالحرف الواحد.
قال لي مندمجاً في قصتي بعد أن نسي ما يمرُّ به من كآبة وحزن: وماذا حدث بعد ذلك؟
قلتُ لمحمود مُبتسماً: نظر نحوي فلم يجد منّي سوى ابتسامة صغيرة على وجهي، دون أن أُبدي أي انفعال أو تأثر، فأثار هذا غضبه واستياءه.
نظر محمود نحوي في ذهول، وقال لي مُستغرباً: بعد كل ما حدث معك لا تزال مُبتسماً؟
قلتُ لمحمود بعد أن زالت ابتسامتي وعلت نظرة حازمة على وجهي: لا أحد في الكون يستحق أن أُحزن نفسي من أجل كلماته التي لا يوجد لها في قلبي أي مكان.
أكملتُ كلامي مُستدركاً: بل أكثر من ذلك يا محمود، بادرتُه قائلاً بلا مبالاة، "أهذا كل ما تريد قوله لي د. عصام؟".
نظر محمود نحوي وقد فتح فاه مذهولاً من شدة جُرأتي وعدم مبالاتي.
أكملتُ كلامي وقد ارتسمت على وجهي ابتسامة نصر صغيرة: لم يرد عليّ د. عصام بكلمة واحدة، وعندما بقي صامتاً للحظات، استأذنتُه في الخروج، وقبل أن أخرج من مكتبه، مددتُ يدي نحوه وفيها دعوة حضور المناقشة. لكنه ما إن رآها وقرأها، حتى شَخُصَ ببصره فيها، وفَتَحَ فاه من شدة الذهول والصدمة.
نظرتُ إلى محمود بلا مبالاة وقلتُ له بعد أن حنيتُ أطراف شفتي للأسفل: أتعلم يا محمود؟! يوم أن خرجتُ من مكتبه بعد أن قال لي إنني الوحيد المميز بالفشل، قلتُ في نفسي مُتأملاً: "نعم، إن كنت تقصد بالفشل أنني متمرد على نظام الحفظ خاصتكم، فأنا أكبر فاشل. وإن كنت تقصد بالفشل أنني متحرر من طريقتكم التعليمية الفاشلة، فأنا أكبر فاشل. وإن كنت تقصد بالفشل أنني لا ألتزم بما هو موجود في الكتب والملخّصات خاصتكم، وأفكر في الحلول المختلفة للمسألة دون الالتزام بالنص، فأنا أكبر فاشل. وإن كنت تقصد بالفشل أنني أحاول الفهم وأفهم، وأحاول الخروج من الصندوق وأخرج، فأنا الفاشل الوحيد في هذا الصندوق".
عندما قال لك والدك بأنك فاشل، فقد يكون معذوراً لجهله، أما أستاذي المُثقف الواعي الذي هو أبي وقدوتي في العلم والجامعة، فما الذي يعذُره؟
أطرق محمود رأسه مُفكراً مُتأملاً، بعدها بلحظات، رمقني بنظرة حازمة دون أن يُعقِّب على كلامي بكلمة واحدة.
بعد أن زفرتُ زفرة ساخنة من الأعماق، والحسرة تملأ قلبي الصامد المليء بالأحزان، والعبرة تخنق الكلمات الممزوجة بالأوجاع، قلتُ لمحمود مُبتسماً بحزن: لقد وجدتَ من يقف معك ويُؤازرك يا محمود، لكنني لم أجد.
محمود يفتح فاه من شدة الذهول، بعد أن أُصيب بصدمة مما قلتُه له.
في الحقيقة، من كثرتها، لم أستطِع أن أعُدَّ المرات التي فتح محمود فيها فمه من شدة ذهوله وصدمته.
نفس عميق أتبعتُه بزفرة طويلة مليئة بالحسرة، فيما اكتفى محمود بإطراقة رأسه إلى الأرض، وقد شعر بأن مُصيبته لا تُقارن أمام مُصيبتي.
أكملتُ كلامي قائلاً بتفاؤل مُتصاعد وابتسامة مُتنامية: بعد المناقشة بأيام، ذهبتُ إلى الأساتذة الذين قاموا بتدريسي في تلك الفترة كي أُسلم عليهم وأودعهم، وبعد أن مررتُ عليهم جميعاً وسلمتُ عليهم، بقي واحد لم أقُم بالسلام عليه أو توديعه، إنه د. عصام.
مررتُ من أمام مكتب د. عصام الذي لم يحبه أحد من الطلبة، حتى من يحفظون لديه يُبغضونه، ووقفتُ بباب مكتبه، وصارعتُ نفسي، أأدخل عليه أم لا؟! لكنني بعد تردد، قررتُ الدخول عليه، وما إن رآني حتى هَشَّ وبَشَّ في وجهي واقفاً، الأمر الذي جعلني مذهولاً مما رأيتُه منه، وجعل عينيّ تتحركان بحركة عشوائية نحوه بسبب هذه المفاجأة.
د. عصام، يَهُشُّ ويَبُشُّ! بعد كل هذه السنين الطوال يَهُشُّ ويَبُشُّ! بعد كل محاولة مني للفت انتباهه وإثبات جدارتي أمامه يَهُشُّ ويَبُشُّ!
طلب منّي د. عصام الجلوس عنده لدقائق، فترددتُ في ذلك الأمر، لكنني وافقتُ على مضض، وبعد أن قعد على كرسيه، وشبّك بين أصابعه في توتر، تردد عن قول شيء ما، لكنه لم يلبث وأن استجمع قواه، وقال لي بعد أن ابتسم في وجهي ابتسامة مُصطنعة زادت الشك والقلق في صدري: ابني الحبيب.
قلتُ في نفسي مُستغرباً وجلاً: ماذا بعد؟!
لكنه فاجأني بقوله: لم أرَ في حياتي شاباً طموحاً مثابراً مُتميزاً مثلك، إلى الأمام وأتمنى لك التوفيق.
هزَّت كلماته قلبي، وبلغت منّي العَبْرة مبلغها، لكنني تمالكتُ نفسي أمامها، فارتسمت ابتسامة امتنان صغيرة على وجهي، صارعتُها حتى لا أفقد تماسُكي.
وضعتُ يدي على كتف محمود وشددتها عليه وقلتُ له مُنبِّهاً: هو لم يكن الأول، ولن يكون الأخير، لكن، ما لم يكن يُدركه هذا الدكتور وغيره من المُثبِّطين، هو أنني أؤمن بقاعدتي الخاصة، "كلما زدتموني تحفيزاً، زدتكم إنتاجاً. وكلما زدتموني تثبيطاً، زدتكم إبداعاً".
نظرتُ نحو محمود نظرة إصرار وعزيمة، وقلتُ له بحزم: لذلك عليك أن تُريهم إبداعك يا صديقي، ولا تجعل كلماتهم تُؤثر عليك، فالحياة حياتك وليست حياتهم، حتى إنهم لم يُحققوا عُشْر ما حققتَ أنت.
أكملتُ كلامي مُستدركاً باستغراب: أنت تُريدُ أن يتقبّلك والدك؟! سيتقبَّلك والدك في حالة واحدة فقط، عندما تُصبح قوياً أمام كلماته المُثبطة. وسيتقبَّلك من يريدُ كسرك وتثبيطك عندما يراك تتقلَّبُ من نجاح إلى نجاح، عندها سيتقبلُونك جميعاً.
قلتُ لمحمود مُستثنياً مُفترضاً بابتسامة مُتفائلة: حتى وإن لم يتقبلك أو يتقبلوك، فليس المهم أن يتقبلك الآخرون طالما أنك قد تقبَّلت نفسك على ما هي عليه من نجاح وتميز.
قلتُ له بعد أن وكزتُه على كتفه برفق: ثم إنك قلتها من البداية، "إذا كان الشخص الذي يهمني في هذه الحياة لا يهتم، إذا لماذا عليّ أن أهتم؟"، وأنا أقول لك، بالفعل، ولماذا عليك أن تهتم بكلماته، بل لمَ عساك تهتم بعدم اهتمامه من الأساس؟
أشرق وجه محمود بعد أن غادر اليأس والإحباط كوكبه، وارتسمت ابتسامة عريضة على مُحياه البهيّ، فقرَّت عيناي بابتسامته.
وبالرغم من أن ساحرتي وجميلتي قد غربت، فإن رُؤيتي لشمس صديقي باقية قد عوضتني عن غروبها.
قال لي محمود قافزاً من الفرحة بأمل لا نهائي بعد أن نظر نحو البحر: سوف أقهرهم بإبداعي، سوف أفعل.
نسمات البحر تعزف لنا معزوفة جميلة طرباً بانتشاء محمود وتفاؤله.
ابتسامة صغيرة ارتسمت على وجهي بعودة الأمل إلى صديقي محمود الذي لم أكن أعرفه قبل هذا اليوم، بينما بقي قلبي ينزف من الألم وهو ينظر نحو مُحَمَّد الذي لم أُدركه قبل أن تغرُب شمسه؛ لتسقُط من على جُرف الكلمة المُثبِّطة، وتخبو في قاعها. (يُتبَع)…
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.