يقول الأحوص:
ما يلبث الحبُّ أن تبدو شواهده من المحبِّ، وإن لم يُبْدِهِ أبدا
فإن كانت علامات الحب بادية بغير تصريح، فلماذا يصر الناس على ضرورة التعبير عن الحب بالكلمة المباشرة واللغة الواضحة، ويتغافلون عن علاماته الظاهرة في السلوك والطبائع؟ والحقيقة أن النفس لا تستطيع أن تجزم بالمحبة بلا تصريح، ولا يمكن للقلب أن يستقر لمن يحب دون خوف أو وجل إلا بمثل هذا الحديث الذي لا شك فيه. وما يثير العجب أن الناس يصل بها الأمر إلى أن تقدم الكلمة على الفعل، فتراهم ينصتون لكلمات الحب ويتغافلون عن أفعال تتناقض وما يُقال، ويتحملون الأذى والمشقة، وربما بذلوا من أنفسهم فوق طاقتهم فقط من أجل كلمات لا تسمن ولا تغني من جوع، بينما ترى في فعل ذلك الذي يصرح بالمحبة كل ما ينفيها ويفسدها. فهل نحن حمقى أم أن الحب يُعمي كما يقال؟
ولعل انتمائي لمعشر النساء جعلني ألحظ أن فيهن حاجة خاصة إلى التعبير العلني عن الحب، لا التصريح فقط؛ فالمرأة ليس أحب إلى قلبها من أن يعبر من تحبه عن تعلقه بها وعشقه لها أمام الناس ولا سيما غيرها من النساء، وكأنها بذلك تنتصر عليهن في معركة التنافس الوهمية هذه. وعندما حاولت التفكر في الأمر لتفسيره وتبيّن أسبابه، بدى لي أن القضية "عويصة" كما نقول، فالأمر يبدأ منذ زمن غابر، فالنساء "الشريفات" بنات "الأصل" ربّات خدور، يتسابق الرجال للتقرب منهن واكتساب رضاهن، يحارب أحدهم ولا يذكر في خضم معركته سوى وجه حبيبته يلمع على نصل سيفه كما يقول
:عنترة
وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي
الحق يقال؛ إنني عندما سمعت هذا البيت لأول مرة وكنت مازلت في المرحلة الإعدادية ربما تعجبت للكذب البواح الذي يتفوه به هذا الرجل، ومازالت حتى الآن أجد صعوبة في "بلع" هذه الأبيات، يعني الرجل لا يتحدث عن زوجته وأم أولاده ولا امرأة بينه وبينها عشرة أو ألفة مشاركة الحياة، يتحدث عن محبوبة غائبة بعيدة مجهولة، فالمعرفة تقتضي العشرة ولا يمكن ادعاؤها بغير ذلك.. ولكن ما علينا.
بالعودة لموضوعنا فنحن نرى أن في تاريخ النساء ما يدفعهن إلى البحث عن الاهتمام العلني، بصفته أكبر دليل على المحبة، وباب من أبواب المنافسة بينهن وبين بنات جنسهن، أضف إلى ذلك أن النساء غالباً ما يتربين على فكرة أن المرأة تُطلَب ولا تطلُب، والحب في السرّ لطالما كان إهانة ومثلبة في حق الفتاة، وباب لكل خطيئة، وسبب لكثير من النقائص، لذلك فإن ثقافة المرأة المرغوب فيها المطلوبة هي ثقافة تعززها الكثير من معتقداتنا المجتمعية وممارساتنا اليومية. أتأمل طالبات المراحل الثانوية والجامعية وأرى في الفتيات دائماً سعياً إلى نيل الإعجاب، أو لنقُل أكبر قدر من الإعجاب الممكن من أقرانهن، وكان هذا التنافس يتعدى الرغبة في تلقي اهتمام شخص بعينه للرغبة في تلقي الاهتمام من أي أحد، سعي حثيث للشعور بأنها مطلوبة.
والفتيات عندنا يكبرن على أن الحياء يتناقض مع التصريح بالحب، أو التلميح بالإعجاب، ولكن لا بأس بأن يسعين لطلب الحب أو استرعاء الاهتمام، وما الأفراح والمناسبات العائلية القريبة والبعيدة إلا مثال على ذلك. تجد الأمهات يبذلن الجهد حتى تبدو الفتاة في أبهى صورتها حتى تزغلل عيون الموجودين لعلها تتلقى نظرة رضى من سيدة تبحث عن زوجة لابنها أو أعزب يبحث عن عروس. وإن كنت لا أرى غضاضة من أن تستخدم هذه المناسبات لزيادة فرص التعارف والزواج، إلا أنني بطبيعة الحال أجد في هذه الطريقة الغريبة المليئة بالتناقض الكثير من المشاكل النفسية والفكرية؛ التناقض الذي يقول للمرأة عيب أن تعبري عن مشاعرك أو تصرحي بها، ولكن مطلوبٌ منك أن تتجملي وتتزيني على الملأ سعياً لنيل الإعجاب.
لهذا تجد الكثير من الفتيات يجدن صعوبة كبيرة حتى بعد الزواج في أن يقمن بالتعبير عن مشاعرهن صراحة أو خلافه، أو في إظهار الحاجة للرجل، أو الرغبة فيه، فهذه كلها كانت من المحرمات مطلقاً، وتم بناء حاجز نفسي بين الفتاة وبينها لدرجة تصل حد أن تنفر الفتاة منها، فتقرف من فكرة الزواج وتشمئز من شيء كالقبلة. وأنا لا أبالغ، فقد مرّ عليّ سؤال لفتاة حديثة الزواج تستفسر إن كان من حقها رفض تقبيل زوجها لأنها "تقرف"، وأخرى وصلت حالة من الرعب قبل زفافها بصورة مؤذية جعلتها تفكر في إلغاء الزفاف، وغيرهن ممن يتعاملن مع العلاقة الزوجية كعقاب إلهي من نوع ما يجب أن تتعامل معه بمهنية وتحتمله كجزء من الحياة وكفى.
لأجل كل هذه الأسباب، فإن الفتاة تكبر بفكرة غير واضحة عن حقيقة التعبير عن الحب، سواء وهي تستقبله أو وهي تعطيه. فتعتقد أنها كامرأة تتحدد قيمتها بمدى إبداء الرجال رغبتهم فيها، ثم مدى تعبير زوجها عن حبه لها وتعلقه بها كلاماً أو فعلاً، ثم هي بحاجة لأن يكون هذا الحب مرئياً معلناً؛ وكأنها تعوض ذلك المنع والحجر على مشاعرها باستقبال هذا الفيض من المشاعر وعلاماته. لا أقول هنا إن الفتيات وحدهن هن سبب هذا الوضع غير الطبيعي -حتى لا يجد الرجال عذراً لترديد عبارات مثل: عشان تعذرونا، وعشان تعرفوا إنكم مجانين- لأن الرجال بطبيعة الحال هم أيضاً يتصرفون بشيء من البهيمية التي تعزز أكثر فأكثر هذه النظرة؛ فهم كما سباع البرية وثيران الحقول يتنافسون فيما بينهم، من يستطيع الحصول على أفضل أنثى، ومن يستطيع أن يغرر بأكبر عدد من النساء، فنتابع حقيقة، وليس في الأفلام فقط، مشهداً لفتاة يتعارك من أجلها شابّان، ونظرات الغيرة من قريناتها تلاحقها، وشاباً تتمنى الفتيات أن ينظر إلى إحداهن بعين الإعجاب، ويتنافسن فيما بينهن حول من تتلقى أكبر قدر من الاهتمام.
هل الرغبة في تلقي الاهتمام غريزة أنثوية والأنثى بطبيعتها تحب من يدللها ويغدق عليها العاطفة من كل لون؟ أعتقد أن الرغبة في تلقي الاهتمام طبيعة بشرية ضرورية لتحقيق توازن في شخصياتنا، ليس الأمر محصوراً في النساء، ولكنه بسبب ممارساتنا الأسرية والمجتمعية تحول لسمة أنثوية ظاهرياً، فيما الحقيقة غير ذلك، فلو تفحصنا الوضع العام لوجدنا أن الرجل هو من يتلقى أكبر قدر من الاهتمام والرعاية في أي علاقة، بتدبير شؤونه، وإعداد طعامه، وتلبية رغباته، فيما تحصل المرأة على سمعة الضعيفة المتطلبة لأنها تلهث وراء الكلمات والهدايا واللطائف من الأمور. ولكن في كل الأحوال على النساء أن يتأملن جيداً في نوعية الاهتمام الذي يحتجنه، لا الاهتمام الذي يرِدنه، هي تحتاج اهتماماً يراعي حالتها النفسية إذا ساءت، والصحية إذا تعبت، ويقدم لها المساندة والعون إن احتاجت، ويراها شريكة لا "عيّلة" أو "صغيرة عقل" يضحك عليها بكلمتين كما نحب أن نردد، وكأنها مَنقبة من مناقب النساء أن يكنّ ساذجات "هبلات". فرق كبير بين المرأة سهلة المعشر والمرأة "الملطشة".
من أجل كل ذلك يا حضرات، ففي المرة القادمة التي نرى فيها منشوراً لرجل يتغزل علناً في خطيبة أو زوجة، أو لشخص أعزب يتحدث عن حبيبة متخيلة، فلنتفادى الـ"هيييه" والـ"آآآه" والحسرات، ولنقلب الصفحة إلى ما يفيد، حفاظاً على متبقى في "نوافيخنا" من خلايا نشطة.
هذه التدوينة منشورة على موقع مدونات الجزيرة
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.