وفق بعض علماء النفس المهتمين بالعقل البشري، هناك نظامان يعملان في داخل كل منا.
تختلف مسمياتهما بين هؤلاء العلماء، وتتشابه وظائفهما.
بعض العلماء يسمونهما العقل الحدسي والعقل الحسابي، أو النظام 1 والنظام 2، والبعض يسمونهما العقل 1 والعقل 2.
لكن هنا شبه إجماع على أن هذين النظامين يقومان بوظائف مختلفة ويتحكمان بإرادات مختلفة، كما ينتج عنهما محكمات مختلفة.
وتبعاً لذلك قد ينتج عنهما قراران مختلفان حيال نفس الموقف.
في سلسلة المقالات هذه سأحاول بسط وإعادة سرد بعض الفروق بين النظامين أو العقلين.
كثير مما سيرد في هذه السلسلة قادم من كتاب "التفكير سريع وبطيء" لعالم النفس الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد دانيال كانمان، وبعضه قادم من كتب ومقالات أخرى متعددة، وبعضها استنتاجات خاصة.
كما ذكرت هناك عقلان في داخلنا، النظام 1 وهو العقل التلقائي، هذا العقل متأثر بالحدس وتصقله التجربة، ولا يستعمل الكثير من الطاقة للقيام بتحليل ما يجري من حوله.
هو عقل عاطفي ولا إرادي، وهو طبعاً سريع، يقفز للاستنتاجات بسرعة ويستطيع أن يبني قصصاً تبدو متكاملة بناء على أبسط المعلومات المتوفرة، فهو يستطيع ملء الخانات الفارغة في القصة أو في الأحداث وفق ما يعتقد أنه صحيح ووفق ما يتناسب مع رؤيته للكون.
أما النظام 2 أو العقل 2، فهو العقل الحسابي (لا علاقة للرياضيات هنا).
هذا العقل يبذل جهداً ليعمل، وهو عقل منطقي ويمكن التحكم به كما أنه بطيء.
هذا العقل يحاول أن يعقلن الأحداث ويحاول أن يجد تفسيراً منطقياً لما يجري أمامه، ولذلك هو بطيء ويستهلك الكثير من الطاقة، كما أنه لا يقتنع بالتفسيرات الظاهرية للأحداث والتي لا تستند على دليل، بل يميل دوماً للشك والانتقاد.
وفي الواقع قد يبدأ القارئ هنا بمحاولة أن يقول لنفسه إن عقله من النمط هذا أو ذاك، وقد يستطيع أن يسرد مواقف لتدل على صحة ما يقوله.
لكن في الحقيقة، فإن كلا النظامين يعمل في نفس العقل البشري ويعمل معاً، ويتبادل وبشكل مستمر المعلومات.
ولنكُن واضحين أكثر، لا يعني هذا وجود جهازين أو عقلين منفصلين في الدماغ. في الحقيقة لا يتعدى الأمر عن كونه دوائر عصبونية ذات سيالات مختلفة تجري داخل الدماغ، وتختلف طبيعة ترابطها من شخص لآخر، لكن ذلك لا يعني أن الأفراد يملكون إحدى هذه الدوائر وفقط.
فمثلاً إن عملية حسابية بسيطة مثل 2+2 ، أو قيادة سيارة لمن يسوقون بشكل منتظم مثلاً هي عمليات تتم بدون تفكير وبسرعة وانسيابية عبر العقل 1.
كما أن استخدام لوحة المفاتيح بسرعة، أو السير داخل غرف المنزل بدون التفكير بالاتجاهات أو الإجابة عن سؤال عن الاسم أو العمل وغيرها من الأحداث التلقائية التي نقوم بها دون تفكير، جميعها تقع ضمن أعمال العقل 1؛ لذلك هو عقل حدسي ويتأثر بالتجربة.
وفي المقابل فإن علمية حسابية مثل 32*42، أو محاولة بناء منزل بالمكعبات عبر تتبع خطوات محددة، أو ركوب الدراجة أول مرة، أو محاولة حل الكلمات المتقاطعة وغير ذلك من العمليات التي نقوم بها لأول مرة أو تحتاج لتركيز إضافي (ليس بالضرورة أن تكون صعبة) كلها تحتاج لتدخل النظام 2.
ومع أن النظامين يبدوان منفصلين ومستقلين في عملهما، إلا أنه وكما لمّحت أعلاه، فهما فعلياً متداخلان بشكل كبير.
فعند مواجهة أي مشكلة أو قضية تتطلب بعض التحليل العقلي، فإن العقل 1 هو الذي يتصدى لها أولاً، فإن استطاع حلها (بغض النظر عن صحة أو عدم صحة هذا الحل) فإنه سيتبنى ذلك الحل على أنه حل منطقي ويمكن "التعايش" معه.
أما عندما لا يستطيع العقل 1 حل المشكلة، فإنه يستدعي العقل 2.
العقل 2 لا يستطيع العمل بدون العقل 1، فهو لا يزال يحتاجه ليدرك ما يجري حوله ويجمع المعلومات عن هذه المشكلة أو عن البيئة المحيطة، كما أن العقل 2 سينتظر التحليل والاستنتاج الذي توصل له العقل 1، فهو سيعتمد على هذا التحليل وسينظر فيه، فإما أن يصححه وإما أن يوافق عليه.
العقل 1 يتعلم بالخبرة والتجربة والصح والخطأ، وهي أمور سيعتمد عليها العقل 2 ليعمل بسرعة وكفاءة.
يتبع العقلُ 2 العقل 1 في حدسه ودون جهد أو تمحيص في الخيارات، ويتركه أحياناً ليقرر بسرعة دون إدراك لخطأ هذا القرار.
يمكن اعتبار أن العقل 1 يقوم وبدون أي جهد بإصدار الانطباعات والمشاعر والتي تقود العقل 2 لتقرير خياراته ومشاعره الصريحة.
ومع أن العقل 1 هو الذي يقوم ببناء نماذج معقدة للأفكار المختلفة، فإن العقل 2 هو من يرتب هذه الأفكار كخطوات متراتبة ومرتبة مع بعضها البعض.
العقل 1 يقدم اقتراحات للعقل 2، ويقدم انطباعات وحدساً ورغبات، ومشاعر، كل هذا قد يقبله العقل 2 وحينها ستتحول الانطباعات لحقائق وتتحول الرغبات لأفعال.
وبشكل عام، وطالما أن الأمور هادئة ولا مشاكل تحدث، فإن العقل 2 سيقبل ما يقترحه العقل 1 بدون تعديل.
ولذلك يعتبر العقل 2 كسولاً نوعاً ما، مما يعني أن معظم أخطائنا هي نتائج للعقل 1 بالدرجة الرئيسية.
ويمكن القول بالمقابل: إن الأخطاء هي نتاج غياب العقل 2، وبالتالي فهو مسؤول عن التحكم بالذات.
يضاف لما سبق شيء مهم، طالما أن العقل 2 يعمل بنشاط وبِجِد ويحتاج لتركيز، فإنه إذا فقد هذا التركيز لأي سبب، فإن مقدرة العقل 2 على المحاكمة ستتراجع بشكل كبير.
بمعنى آخر يعتمد العقل 2 على مصادر لطاقته، وعلى ميزانية لعمله، فإذا فقدت هذه المصادر والميزانية فإن ذلك يعني انحدار جودة عمله.
لا يعني ذلك بالضرورة مصادر طاقة فيزيائية (وإن كنا سنستعرض ذلك لاحقاً). يمكن تشبيه الأمر بجهاز كمبيوتر يمتلك معالج بسرعة محددة ويمتلك ذواكر تعمل معه.
إن سرعة عمل هذا الجهاز تعتمد على قدرة المعالج والذواكر على العمل بسرعة لإنجاز المهمة.
لكن، وبمجرد أن تطلب من الكمبيوتر أن يقوم بأكثر من عمل في نفس الوقت فإن أداءه سيتراجع، كأن تبدأ لعبة مثلاً وفي نفس الوقت تقوم بعمل معالجة لمقطع فيديو.
يعمل العقل 2 بنفس الطريقة تماماً، فمثلاً لا يمكنك أن تقوم بعملية حسابية معقدة وأنت تقود سيارتك في منطقة مكتظة بالمشاة، أو لا يمكنك أن تحتفظ بذهنك برقم عشوائي من 6 خانات أثناء محاولة حل كلمات متقاطعة، أو أثناء انشغالك باللعب على البلاي ستيشن أو محاولة القيام بلعبة قراءة أسماء الألوان مكتوبة بألوان مخالفة.
هذه العمليات جميعها تتطلب انشغالاً كاملاً من العقل 2، وبالتالي لا يمكن جمعها في نفس الوقت إلا بعد تدريب طويل، بحيث تصبح إحدى هذه العمليات تلقائية ولا تحتاج لتركيز من العقل 2، بل تتم ممارستها عبر العقل 1 مباشرة.
إن إدراكنا لوجود هذين النظامين في عقولنا يساعدنا على المحاكمة المنطقية لقراراتنا وعلى التفكير بعمق أكبر في كلماتنا ومشاعرنا قبل أن ننطق بها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.