تَستفيقُ فجأةً..! تُحَدث نفساً لك، كانت ما بين السابعة عشرة والثامنة عشرة من عمرها، لكنها كانت تُشَيد ثقةً كاملة في هذا العمر، لم يرهقها خيال، أبدعَت في تصور ما يجب أن أكون عليه الآن، لم تكن وحدها آنذاك، كان هناك رفيقُ الدرب والروح، هل ما يدور في خيالك الآن هو أن الثقة أصبحت بنصف كمالها..؟! نعم، يا صديقي؛ لأنَّ فقدان الوطنِ "نصفُ ثقة".
"رياح الوطن"
هي قصةٌ طويلةٌ أقصُّها عليك من دون إسهاب في الحديث: تلألأت تلك الأحلامُ ما بين الثامنة عشرة والحادية والعشرين من العمر، قطعت حينها نصف الطريق بثقةٍ كاملة، كنت هناك أتمدد في النجاح، أطوي العقباتِ، أقدم الخيرَ، أنال الدعاء، أتنقَل بالثقة نفْسها بين العمل والكتابِ، الكتابُ…؟! نعم، الجامعة، رسمتُ لها ما رسمتُ لِتَخَطِّيهَا.. ليس للتخلص منها ولكن…! حتى أتفرغ َ لما بعدها.. كيف؟ كنت وحيداً.. لا تنتظرُني بِذلةُ حرس الحدود إذن فالقادم أحلى.. كنت على شغفٍ لهذا الموعد، لكنَّ فقدان الوطن "نصفُ ثقة".
استمِرَّ معى… كانت تستوقفنا الرياح في منتصف الطريق.. رياح الوطن.. اجعلني أُحصيها لك من البداية، عاصرتُ أحمد زكي بدر في الصف الثاني الثانوي.. والكل يعرف من هو أحمد زكي بدر! وفي الثالث الثانوي، كانت ثورةُ الخامسِ والعشرينَ من يناير/كانون الثاني، تعرفها أنت جيداً، فهي ذكرى قد تكونُ مؤلمةً للبعض الآن.. لكنها كانت نُضج الشباب، مفاجأة للكُهل.
هلع للأمهات، سيرة عطرة للشهداء، ابتسامة أمل لسُجان الرأي، توعُد للطغاة، لم يطل كل هذا كثيراً.. اندلع "انقلابٌ 2013″، كانت السنة الأخيرة قبل التخرج الذي حدثتك عنه سالفاً وكنت أنتظره بخطى الصبر، حتى أفرغَ لما بعدهُ.. هل تذكرتَ..؟
ولكنَّ فقدانَ الوطن "نصفُ ثقة".. ابقَ معي، نزَفَ الوطنُ، استعانَ بأبنائهِ، فقدهمُ الوطنُ ففقدوهُ فأصبحتِ النصفُ ثقة هل تبقى النجاحات؟! استعجلَ الوطنُ ثماركَ فذهبْتَ معَ رياحِهِ، وكانت النتيجة غُربتَكَ عن الوطن، وبقيتَ متلازماً أنت مع نصفِ الثقة لكنك واثقٌ بها، فهي ما تبَقَّى لك من الوطنِ.
"الأيام الأولى من الغربة عن الوطن"
أخذتْ أيام الغربة تدور على رفاتِ الثقة التي جلبتها معك من الوطن، يومٌ يُبنى منها طوبةٌ ويومٌ يُهدمُ منها عشرٌ أُخرياتٌ، لكنها أصيلةٌ فهي ما تبقى لك من الوطن.. تحملُ عبقهُ، الغرام منها يبني مجداً، والاهتزاز فيها يعكرُ صفواً.. تتمايلُ معي؛ لأنها على أرضٍ غير أرضِ الوطنِ، لا يوجدُ من يُرمِّمُهَا.. ولا تعرفُ إلى من تستند.. حتى إنها تخافُ ممن سيحملها، تقدمَت وتقدمَت، ولكن للأسف الشديد، هي مجرد "نصفُ ثقة" تفزعُ من الأحداثِ، تترقبُ القريبَ والبعيدَ.. هل نُعطي الثقةَ؟!!
إذا كان الجوابُ بـ"نعم"، إذن فمن الضامن؟! وإذا كان بـ"لا"، فهذا أمرٌ طبيعيٌ، فأنتَ لستَ على أرض الوطن.. ثقافةٌ جديدةٌ على أرض جديدةٍ لم ترتقِ لتكون الوطنَ البديل، حياةٌ سريعة، لا يشبه يوماً الآخر إلا في تيهِ البالِ والخاطر، فدائماً ما تكون الغربةُ كما قال عنها الشاعر:
"جِسْمِي مَعِي غَيْرَ أَنَّ الرُّوحَ عِنْدَكُمُ ** فَالجِسْمُ فِي غُرْبَةٍ وَالرُّوحُ فِي وَطَنِ"
"فَلْيَعْـجَـبِ النَّـاسُ مِنِّي أَنَّ لِي بَــدَنـاً ** لا رُوحَ فِيهِ، وَلِـي رُوحٌ بِـلَا بَــدَنِ"
وروايةُ "عابر سبيلٍ" تَسْرِد "حتّى على الغربة يحسدونك، كأنّما التشرّد مكسب وعليك أن تدفع ضريبته نقداً وحقداً. فالغربة يا رجل فاجعة يتم إدراكها على مراحل، ولا يستكمل الوعي بها إلا بانغلاق ذلك التّابوت على أسئلتك الّتي بقيت مفتوحةً عمراً بأكمله، ولن تكون هنا يومها لتعرف كم كنت غريباً قبل ذلك؟ ولا كم ستصبح منفيّاً بعد الآن؟".
تمايَلتَ أنتَ معي أيها القارئُ.. فأنا لا أحمل لك بين سطوري فقدانَ الثقةِ، لكني أُخبركَ وأخبرُ نفسي من قَبلكَ، بأنَّ فقدانَ الوطنِ "نصفُ ثقة"، وطنُكَ تخلقُهُ أنت أينما حللتَ، ربما يكون امرأةً صالحةً، أوعملاً ناجحاً أو دراسةً مُحصلةً، أو على الأقل مُهاتَفةً من الوطن تدبُّ فيك الثقة، ابدأ من أحد هذه الأشياءِ تسترجعُ، تلك الثقةُ الكاملةُ.. ولا داعي لـ"نصفِ الثقةِ".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.