المثابر الفاشل (1)

لم أكن فاشلاً في الدراسة، كلا. بالعكس، كنتُ الأول على دُفعتي، حتى إنني كنتُ مُتميزاً في درجاتي في مواده التي قام بتدريسي بها.

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/28 الساعة 01:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/28 الساعة 01:20 بتوقيت غرينتش

بطاقة بيضاء مُستطيلة الشكل، بإطار أخضر، تحملُ شعار الدراسات العليا، قد كُتب فيها اسمي وعنوان مشروعي وموعد مناقشة مشروع التخرج الخاص بي، أحملها بين يدي، مُتفائلاً فرحاً باقتراب موعد تخرُّجي في الجامعة؛ بل أكثر من ذلك، اقتراب موعد رؤية مشروعي النور، ومشاركته مع الجميع من أجل خدمة مُجتمعي ونهضة بلدي.

لكنني عندما ذهبتُ إلى والدي، الذي لطالما أردتُ أن أُثبت نفسي أمامه… العبرة تخنق الكلمات، والدموع قد بدأت تتزاحم في العيون، والغصة تشُدُّ يديها على حلقي بكل ما أوتيت من قوة.

لقد أحببتُ والدي، لدرجة أنني سأفعل أي شيء يجعله يرضى عني، لكنه لا يبالي بما أحاول وأحاول جاهداً أن أفعله من أجله. وعلى الرغم من نجاحي في شتى مناحي حياتي؛ بل وتميُّزي فيها، وظني أن هذا ما سيجعل والدي يتقبَّلُني- فإن والدي قال لي بكل برودة أعصاب عندما أخبرتُه بنجاح مشروعي: مهما فعلت لتكون ناجحاً أمام الجميع، فلن تكون إلا مجرد فاشل في نظري.

نظرتُ نحو والدي مصدوماً مذهولاً وهو يقولُ لي بكل برودة أعصاب، مُشيراً بيده مُحقِّراً: أنت فاشل وستبقى فاشلاً مهما فعلت.

هذا ما قاله لي صديقي محمود وهو يبكي من شدة الإحباط الذي أحاط به، جرَّاء هذه الكلمات القاسية الأليمة بعد أن أطرق رأسه بحزن وكآبة.

محمود.. شاب وسيم في منتصف العشرين من العمر، أبيض البشرة، ذو شعر بُني خشن قليلاً، رشيق الجسم، ربعي القامة، شديد الذكاء، ومتعدد المواهب، وعلى الرغم من جميع مميزاته، فإنه استسلم لكلمات والده الشائكة المُؤلمة القاتلة.

نظر محمود نحوي صارخاً والدموع تتساقط من عينيه وهو يُشيرُ إليَّ بكلتا يديه: إذا كان الشخص الذي يهمني في هذه الحياة لا يهتم، فإذن لماذا عليَّ أن أهتم؟!

لم أتكلم بكلمة وأنا أنظر نحو محمود بحزن دفين وقد قطبتُ حاجبيّ بحزم، ولما طال بكاؤه ضممتُه إلى صدري، ووضعتُ يدي اليسرى على رأسه، ويدي اليمنى على ظهره مُواسياً مُهدِّأً، حتى هدأ وتوقَّف عن البكاء.

كنتُ أتمشى على شاطئ البحر يومها مُبتسماً سعيداً قبل الغروب بنصف ساعة، أنتظرُ موعدي مع ساحرتي وجميلتي التي تكون قوية وعصيَّة على الانكسار طوال النهار، لكنها عند الغروب تأوي إليَّ تبتغي الدفء في قلبي، لكنني أكتشف بعد غروبها أنني من يحتاجُ إلى دفئها.

بعد دقائق من هدوئها، بدأتُ أنظرُ نحو ساحرتي، وأغسل عينيَّ بجمالها، فلطالما سحرتني الشمس لحظة غروبها، ولطالما سمحت لي في ذلك الوقت برؤية جمالها، ونسمات البحر تعزف لنا معزوفة جميلة تُبارك به هذا اللقاء، وتتلو في ذلك الوقت أحلى الصلوات.

وقبل أن تذهب ساحرتي بدقائق، التفتُ أنظُر نحو حافَة الجرف الوحيد الموجود بالمكان، وشغلني عن إكمال التمتع بجميلتي، تلك الشمس الواقفة على حافة النسيان.

شاب يقف على حافَة الجرف المُرتفع أمام شاطئ البحر، مُطرِقاً رأسه ينظرُ إلى الأسفل مُتردِّداً، وقد غمر الإحباط كوكبه، واستوطنت الكآبة دولته، تضربه نسمات البحر بعنف شديد لعلها تُثنيه عما قد همَّ القيام به، ولما أدركتُ ما أدركتهُ نسمات البحر الخائفة الوجلة، حتى زالت ابتسامتي، واشتعلت النار في قلبي، فركضتُ نحوه أعدو مُسرعاً لأُدركه، وقد صدق حدسي بما كنتُ أظن أنه مُقْدم عليه، فخشيتُ إن لم أُدركه أن تغرُب وتخبو شمسه في قاع ذاك الجرف وإلى الأبد.

اطمأن قلبي وأنا أضم صديقي محمود إلى صدري بعد أن تداركتُه قبل أن يتهور.
أبعدتُه قليلاً عني بعد أن هدأ وسكن، وقلتُ له بابتسامة حنونة بعد زفرة مليئة بالأسى: سأخبرك بأمر يا صديقي، لطالما كتمتُه في نفسي، ولم أخبر به أحداً قبلك.

هز محمود رأسه موافقاً مُومئاً بعينيه وهو يمسح دموعه.

بدأتُ أسرد له مُجريات ما حدث معي، مُبتسماً بعد زفرة طويلة ساخنة من الأعماق مملوءة بالأسى: أيام دراستي في مرحلة الدراسات العليا، وقبل يومين من موعد مُناقشتي، بدأتُ بتوزيع بطاقات المناقشة على أساتذتي وزملائي، وكنتُ أسيرُ في ممرات مبنى الإدارة الضيقة ولا تكاد الفرحة تَسع كوكبي.

وفي أثناء تجولي بين ممرات مكتب أساتذتي مُبتسماً، وصلتُ إلى مكتب أحدهم، وطرقتُ باب مكتبه، وكان يُدعى د. عصام، والذي لم يكن يعلم أني سأناقش رسالتي خلال أيام.

د. عصام.. رجل في الخمسينيات من العمر، فاتح البشرة، أصلع الرأس، عريض المنكبين، ربعي القامة، كنتُ أعتبره بمثابة أبي وقدوتي في الجامعة.

صمتُّ لحظات..

نظر محمود نحوي بحزن عندما رأى إطراقتي نحو الأرض صامتاً، أتأملُ بحزن، وقد شددتُ على شفتي من شدة الألم، بعدها بلحظات بادرني قائلاً: لماذا توقفتَ عن الكلام يا صديقي؟

قلتُ له بعد أن انتبهتُ إلى أنه يُحدثني، وأكملتُ كلامي مُسترسلاً: قام د. عصام بتدريسي عشر مواد، سبعاً في البكالوريوس، واثنتين في الماجستير، وواحدة في الدكتوراه، كنتُ خلالها أراه أكثر مما أرى عائلتي، من شدة اهتمامي بالعلم وبقائي في مكتبة الجامعة حتى ساعات مُتأخرة من أجل التعلم والدراسة، ومن أجل إثبات نفسي أمامه، لكنني كنتُ أبوء بالفشل في كل مرة، وفي كل محاولة.

استدركتُ كلامي، موضحاً بابتسامة حزينة وأنا أُلَوِّحُ بيدي: لم أكن فاشلاً في الدراسة، كلا. بالعكس، كنتُ الأول على دُفعتي، حتى إنني كنتُ مُتميزاً في درجاتي في مواده التي قام بتدريسي بها.

صمتُّ للحظات مُطرقاً رأسي بحزن، بعدها نظرتُ نحو محمود بحزم، وقلتُ له بعد أن زالت ابتسامتي: لكنني كنتُ فاشلاً في محاولة إرضائه بشتى الطُرق، وكنتُ فاشلاً في ذلك رغم محاولاتي العديدة والمُتكررة.

أكملتُ كلامي بحُرقة وحُزن: كنتُ أسهر مع زملائي، وننام ونحلم، ونصحو ونحن نتكلم عما يقوم بتدريسه لنا، وعن كيفية حل أسئلته؛ إذ كنتُ مهووساً بالعلم أكثر من أي شيء آخر، حتى إنني أهملت نفسي، ولم أهتم بمسألة الزواج طوال فترة دراستي إلى أن أنهيتُ درجة الدكتوراه، والتي استغرقت مني عشر سنوات، رغم توافر كل الإمكانات لذلك الأمر.

زفرة طويلة ساخنة من الأعماق.. وبابتسامة مُتفائل أكملتُ قائلاً: في الحقيقة، هو من كان السبب في التحاقي بتخصص الرياضيات، بكلامه الجميل الذي أسمعني إياه عندما أردتُ الالتحاق بالجامعة، وطرحه وأسلوبه الرائع. بحق، بالنسبة لي، كان مثالاً رائعاً يُحتذى به.

أكملتُ كلامي بابتسامة حزينة: في أول سنة قام بتدريسي فيها، كان تعامله معي فوق الخيال حتى إنني أحببتُه أكثر من نفسي. لكن، وبعد أن بدأ تميُّزي بالظهور وتردَّد اسمي على أنني الأول على جميع طلبة الجامعة بجميع كلياتها في تلك السنة، بدأ تعامله معي يختلف شيئاً فشيئاً؛ بل إنه أصبح يتجنب لقائي كثيراً في مواعيد الساعات المكتبية، فكنتُ أنتظر عند باب مكتبه ساعة وساعتين لكنه عندما يراني، يعدل عن الدخول إلى مكتبه في كل مرة، ويرجع عائداً من حيث أتى!

قلتُ في نفسي مُستغرباً مُلتمساً له العذر: لعله يتبع معي أسلوباً تربوياً من أجل أن أعتمد على نفسي… أو لعله… أو لعله…

تفاؤل مُتصاعد في نبرتي.. كنتُ أظن أنه يريد مني أن أنحو منحى آخر في البحث عن المعلومة، فازدادت همتي، وأصبحتُ أبحث في المكتبة بين الكتب عما أريد، وكذلك كنتُ أبحث عنها من خلال الإنترنت، حتى إن مهاراتي زادت أكثر فأكثر في البحث والتقصي. وبازدياد حبي للعلم والتعلم، ازدادت محبتي له؛ ظناً مني أنه كان يقصد أن يُلجئني إلى هذا الطريق.

كنتُ أتكلم بتفاؤل مُتصاعد، وفي النهاية، خبا كل شيء.

صمتُّ للحظات مرة أُخرى، لكنني لم أصمت طويلاً، وأكملتُ كلامي قائلاً بعد أن عُدتُ لذلك اليوم المشؤوم: في يوم توزيعي بطاقة المناقشة، وبعد أن طرقتُ على باب مكتبه، أذِن لي في الدخول، فألقيتُ عليه التحية لحظة دخولي مكتبه، فلما علم أنه أنا، حدّق النظر فيَّ؛ ومن ثم تجاهلني، فلم أُعِر تصرُّفه هذا أي اهتمام؛ ظناً مني أنه مشغول ولم يسمعني أو ينتبه لي.

زفرةُ طويلة من الأسى خرجت من أعماقي.

أكملتُ كلامي مُستدركاً: ما إن اقتربتُ منه، وقبل أن أعطيه دعوة حضور المناقشة بدأ حديثه معي، وصارحني بقوله مُمتعضاً: إبراهيم، هنالك شيء لطالما رغبتُ في قوله لك منذُ أن رأيتُك ودرَّستُك.

أطرقَ رأسه صامتاً لحظات، فيما بقيتُ أنا واقفاً مُنتظراً ما سيقوله لي، بعد أن بدأت ضرباتُ قلبي بالتزايد شيئاً فشيئاً، فهذه هي أول مرة يقول لي فيها شيئاً ما، بعدها رفع رأسه وقال لي وأنا أنتظر بشوق، سماعي ما سيقوله لي: أنت أكثر طالب مميز رأيتُه في حياتي.

في الحقيقة، تسمَّرتُ في مكاني غير مُدرك ما يقوله لي، وزادت ضرباتُ قلبي أكثر فأكثر.

ابتسم صديقي محمود لسماعه تلك الكلمات، وقال لي بتفاؤل مُتصاعد: جميل، إذن لقد اعترف لك بما كنت تبحثُ عنه طوال تلك المدة.

تجاهلتُ كلام صديقي محمود، وأكملتُ كلامي قائلًا: صمتَ لحظات، بعدها أكمل قائلاً: "لكن … في الفشل"!

فتح محمود فمه من شدة الذهول، بينما أطرقتُ رأسي لحظات.

صمتٌ عم المكان لحظات طويلة مع مداعبة صوت أمواج البحر أسماعنا بِرِقَّة ونعومة.
يتبع…

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد