ميلاد أزرق

أمها تحبها، سريعة، كل شيء تطلبه منها تريده في أسرع وقت، إذا ارتدت الجوارب ببطء طفلة تحاول إنجاز أمر صعب عليها تصرخ وتوبخ بُطأها، فتقوم الأم بالأمر عنها، حرمتها حق التجربة والتعلم.

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/27 الساعة 01:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/27 الساعة 01:47 بتوقيت غرينتش

"وجود".. تمسك بفرشاتها لتضع اللمسة الأخيرة باللون الأزرق الفاتح لعيون تبدو كأنها عينها، تنتهد وهي تنظر إلى الرسمى بعد انتهائها، تبتسم ابتسامة راضية أخيراً استطاعت أن ترسم صورة لها تطابق نفسها الحقيقية، ترى جمالها وتشعر به ربما للمرة الأولى في حياتها، تشعر بالرضا أخيراً عن كينونتها ووجودها بل تشعر بالفخر أيضاً وهي تنظر إلى مرسمها الكبير الخاص بها، وبجوارها صغير يرسم مثلها في مرح، ويسكب الألوان هنا وهناك.

أخذتها الذكريات بعيداً وهي تنظر للصغير، وتتذكر كيف وصل بها طريق الحياة إلي هنا.

"هروب".. حملتها أمها في رحمها ما يقرب من الـ١٠ أشهر، كان زمناً طويلاً جعل جميع مَن حولهم يتعجبون منه، ظلت داخل ظلمات الأحشاء لا تريد الخروج، بدأت وجودها بالهروب.

خرجت مرغمة من داخل الظلمات بعملية شُقّ فيها بطن الأم، عندما تراءى لها النور صرخت بشدة هذا ما كانت تخشاه.

"سنين".. كانت تمتلك عينين زرقاوين كما البحر يقع في أسرهما كل مَن يراهما، عندما تعبر في أي مكان به بشر تجذب إليها جميع الأنظار، فتخجل وتبتسم، تخفي خجلها بابتسامة، هادئة كانت لا تثير ضجة أو صخباً حولها، تجيد الهروب بالضحك.

أمها تحبها، سريعة، كل شيء تطلبه منها تريده في أسرع وقت، إذا ارتدت الجوارب ببطء طفلة تحاول إنجاز أمر صعب عليها تصرخ وتوبخ بُطأها، فتقوم الأم بالأمر عنها، حرمتها حق التجربة والتعلم.

تتكلم نيابةً عنها فهي طفلة لا تستطيع التعبير، تُلبسها ملابسها فهي لا تُنجز وحدها، تُوكلها ما لا تريده فهي لا تدري مصلحتها، تختار أحذيتها فهي لا تدري المريح لها، تخبرها أن تتفوق وتستذكر درسها فهي تريدها طبيبة، تغلق الأبواب وتطرد الأصحاب؛ لأنه وقت مذاكرتها.

أصبحت يافعة، جمالها يخلب اللب، لكنها لا تشعر به كعروسة من شمع زاهي الألوان، لكن لا روح لها.

تعيش في فقاعة كبيرة داخل عالمها الخاص فهي لا تعرف كيف تتعامل مع العالم الخارجي، ذاكرت واجتهدت والتحقت بالطب، عانت كثيراً في كليتها، ليس لأنها لم تستطِع الفهم والاستيعاب، ولكنها تشعر أن مكانها ليس هنا.

فقدت والدها في عامها الأول في الكلية، آلمها فقده فترة من الزمن، لم يكن يضيف لحياتها كثيراً كان دائم الانشغال في عمله ولاتراه إلا قليلاً، ودائماً في شجار مع أمها، ربما افتقدت بعض الحرية التي كانت تشعرها بجواره فلم يكن يرغمها على شيء كما كانت أمها تفعل، ورثت عنه موهبة الرسم.

كانت لحظات سكونها وسعادتها تأتي فقط عندما تخطّ بفرشاتها بعض الرسومات في أوقات فراغها القليلة، كُتب الطب كانت ملئية جميعاً برسومات بقلم الرصاص على الحواف الجانبية للأوراق.

مرت السنون رتيبة مملة بين مذاكرة وامتحانات حتى وصلت للعام الأخير، تخرجت وصارت طبيبة.

جاء الخطيب المنتظر، بهي الطلعة، لم ترتح أو تشعر بالقرب ولا حتى النفور، لا تستخدم مشاعرها أصلاً، كفّت عن ذلك منذ زمن طويل، كيَّفت نفسها على ذلك، فلماذا تشعر وأمها تقرر كل شيء نيابةً عنها؟ ما فائدة الشعور إذاً؟

أمها وافقت على الفور وأخبرتها أن هذا هو الأصلح لها هي تراه كذلك، وعليها إذاً أن ترضخ لما تراه أمها.

جرت المراسم كما اختار العريس، ولبست فستاناً انتقته أمها مناسباً، جُهز المنزل الفخم على ذوق الأم والعريس فهُما يريدان الأصلح، تزوجت ولا تدري هل كانت سعيدة أم تعيسة؟ لماذا تفرح أو تحزن؟ هل تماثيل الشمع الملونة تشعر؟

انتقل زمام حياتها إلى الزوج، فلترتدي هذا وليس ذلك، عليها طهي ما يحبه، الرجوع إلى المنزل قبل وصوله، لا مذاكرة تؤثر على حياتهم، لا نجاح أكثر من كونها طبيبة، نظرة فخر في عينيه حين يتحدث عنها أمام الناس: زوجتي طبيبة، يفرح بها أمام الناس كمن يقتني شيئاً ثميناً.

حين يخلوان تتغير نظرة الفخر إلى نظرة فيها ازدراء يعلو صوته بنبرة حادة، وتتحول الكلمات لنقد دائم لكل ما تقوم به، أنت لا تجيدين الطهي، لا تجيدين الترتيب، أنت لا تصلحين زوجة أصلاً.

"ميلاد".. جاءتها مريضة في المستشفى ومعها زوجها يحمل عنها الحقيبة، يبدو عليه التوتر والقلق، يحبها بعمق يظهر في طيات كلامه وملامح قلقه، يسألها باهتمام عن مواعيد الأدوية وكيفية إعطائها فتخبره، سألته باستحياء: تحبها كثيراً أليس كذلك؟
أخبرها بدون تردد: نعم أحبها بشدة ويؤلمني مرضها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد