صدام وأنا.. ومتلازمة ستوكهولم

حرصت على قراءة كل ما توافر بين يدَي من شهادات عن شخص الرئيس السابق، معظمها نُشر باللغة الإنكليزية، وباستثناءات قليلة ولسبب مجهول لم تتم ترجمتها إلى العربية.

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/27 الساعة 02:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/27 الساعة 02:26 بتوقيت غرينتش

عنوان مستفز، رخيص، غايته جذب القرّاء والترويج لكتاب ما كان أحد ليُعيره اهتماماً لولا وجود اسم صدام حسين على غلافه.

أتوقع أن يكون ذلك رد فعل البعض بمجرد قراءتهم عنوان كتابي الصادر حديثاً عن دار "الثقافة الجديدة" في مصر، سيتهكّمون أيضاً بأن المؤلف لم يلتقِ بالرئيس السابق وجهاً لوجه في حياته، ومع ذلك زجّ باسمه كي يلفت الأنظار للحكايات التي يرويها عن أحداث جانبية وأناس عاديين… فعلاً، أين ذكرياتي ومشاهداتي من إثارة وتشويق الكتب التي صدرت عن طبيب الرئيس، مترجمه الشخصي، شبيه ابنه الأكبر، ابنة طيّاره الخاص وصديقه، فتاة تدّعي أنها كانت معشوقة عُدي صدام حسين.. إلخ.

حرصت على قراءة كل ما توافر بين يدَي من شهادات عن شخص الرئيس السابق، معظمها نُشر باللغة الإنكليزية، وباستثناءات قليلة ولسبب مجهول لم تتم ترجمتها إلى العربية… بعض الروايات بدت موضوعية في طرحها إلى حد معقول، فيما انجرّ بعضها الآخر في محاولة تزييف الحقائق أو حتى اختلاقها لغايات في نفوس الرواة والناشرين، وهو -على أية حال- أمر شائع في العديد من كتب المذكرات والسير، العربية منها والعالمية.

قناعتي الشخصية أن سماع إفادات المُقرَّيبن من صُناع الحدث في أي عصر مهمة وأساسية، لكنها لا تكفي وحدها لرسم صورة شاملة عنه (العصر)، فالمشهد لا يكتمل ما لم يتضمّن روايات المُستقبِلين للحدث أيضاً، وهو ما أغفلته معظم دور النشر العالمية في خضم تدافعها المحموم للحصول على قصص تحبس الأنفاس، تشبع بها نهم القارئ الغربي البسيط لوجبة دسمة مُتبّلة بفضائع الشرق وفضائحه… كان ذلك سبب إحجامي عن نشر شهادتي التي كتبت مسودتها مباشرة بعد غزو العراق، واحتفظت بها لأكثر من عشرة أعوام في حقيبة صغيرة تضم وثائق شخصية قديمة لي ولأسرتي.

فما الذي جدّ في الأمر؟ ولماذا أُعيد كتابتها الآن بعد كل تلك السنين؟

الإجابة على هذا السؤال المنطقي تقتضي منّي ذكر حقيقة أني أدين بالكثير لعمّان، المدينة التي ورد ذكرها في كل ما نُشر لي تقريباً منذ أن قررت التفرغ للكتابة قبل أكثر من ثماني سنوات، فكتابي الأول باللغة الإنكليزية ضم روايات لأحداث كنت شاهداً عليها خلال إقامتي في العاصمة الأردنية بعد مغادرتي العراق، ثم زياراتي المتكرّرة لها بعد أن استقر بي المقام في نيوزيلندا، عمّان كانت حاضرة كذلك في كثير من مقالات الرأي التي كتبتها تباعاً فيما كرّست روايتي "كافيه فيروز" علاقتي الفريدة بالمدينة وذكرياتي عنها وعن ساكنيها، وأفواج المهاجرين واللاجئين إليها.

في عمّان أيضاً، وتحديداً في سفرتي الأخيرة إليها استوقفتني ظاهرة تنامت بين صفوف الشباب من العراقيين المقيمين في الأردن وخارجه، ألا وهي صعود نجم الرئيس السابق وشعبيته كرمز وطني وأيقونة للمجد العراقي والعربي الضائع… لم أكن غريباً بالطبع عن مشاعر الود والإعجاب التي يحملها كثير من سكان عمان لصدام حسين، وهو أمر مفهوم عندما يُقرأ ضمن سياقه العاطفي في مدينة يشكل الفلسطينيون والأردنيون من أصول فلسطينية نسبة كبيرة من قاطنيها، فالرئيس العراقي السابق كان أول من أطلق الصواريخ على مدن إسرائيل خلال حرب الخليج الأولى.

كما شكلت فلسطين والقدس قاسماً مشتركاً بين مئات الخطب التي ألقاها خلال سنوات حكمه، بل إن هتافه بحياة فلسطين كان آخر ما تفوّه به قبل دقائق قليلة من إعدامه، لكن ما أثار فضولي ودفعني للبحث في الأمر هو تزايد شعبية صدام حسين بين مواطنيه المبعثرين في المهاجر وتصدّر صوره شاشات الهواتف النقالة للعديد منهم وصفحاتهم على شبكات التواصل الاجتماعي.

غادرت عمّان وفي نيتي التفتيش عن مسودتي القديمة ونشرها، لكنني وبعد قراءة سطور قليلة فقط، أدركت أن مهمتي لن تكون سهلة، فالعواطف الجياشة التي غلّفت كلماتي قبل عقد من الزمن لم تعد مناسبة اليوم، ولن تكون مجدية ما لم يتم تشذيبها والتعليق عليها والإضافة لها؛ كي يصير الطرح موضوعياً رغم يقيني بأن عدم شخصنة موضوع ذي بعد عام وشخصي في نفس الوقت أمر يقارب المستحيل.

لكن ذلك ما سعيت لتحقيقه… حاولت، ربما أكون قد أصبت أو أخطأت، لا أدري.

هيكلية الكتاب كانت أمراً آخر تحتم عليّ حسمه منذ البداية، ولذلك فقد قررت أن يكون في قسمين، يغلب طابع استرجاع الذكريات على أولهما، بينما يميل الآخر إلى التحليل والتأمل في ظاهرة الحنين إلى أيام الحكم الديكتاتوري، أعراضها المشتركة وأسبابها، مع تقاطعات بين المسارين هنا وهناك… أدرك جيداً بأن الموضوع شائك ومعقد ومتعدّد الأبعاد، إذ نجد صداه يتردّد في كثير من البلدان العربية التي شهدت تغييرات جذرية خلال العقد الأخير.

لذلك فالقارئ الذي يسعى إلى الموضوعية يجب ألا يصدر أحكامه وفق ما اطلع عليه في ثنايا كتاب واحد فقط، بل عليه قراءة شهادات ووجهات نظر مختلفة ومخالفة للحصول على تصوّر أوضح لعصرٍ مثير للجدل ترك أثره ظاهراً ليس فقط على مسار الأحداث السياسية وتطوراتها في العراق، لكن أيضاً في العديد من الدول التي اجتاحتها عواصف التغيير وأعاصيره ضمن ما عرف بـ"الربيع العربي"، بعد سنوات قليلة من تدلّي جسد صدام حسين من حبل المشنقة ذات نهار شتوي بارد في بغداد.

لا أظن أن شهادتي سترضي الكثيرين، فالمؤيدون للرئيس السابق سيجدون فيها تطاولاً وجرأة على نقد عهده، أما المعارضون فسيرونها رواية بلا مخالب وأنياب، وهو أمر قد لا يروق لهم أو يستسيغونه… جلّ ما حرصت عليه عندما شرعت بكتابة "صدام وأنا ومتلازمة ستوكهولم" قبل أكثر من عامين هو أن أنقل للقارئ أحداث عصر عشته، وكنت شاهداً عليه من موقعي كابن للطبقة البغدادية المتوسطة التي تبعثرت في دول الشتات، وفُرض عليها أن تلزم الصمت خلال حكم صدام حسين وبعده.

لطالما كان الوسط موقع الرصد الأمثل الذي يتيح للمراقبين رؤية ما يحدث عند نهايات المشهد، حيث التطرّف والعصبية والانغلاق… أمضيت العقود السابقة من عمري في تأمّل مسار الأحداث الجسام في بلدي الأم، حتى إذا ما امتلأت الكأس، كتبت.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد