يبدو أننا عدنا نعيش في زمن يطغى عليه اختلاط المفاهيم، وضعف قدرتنا على التمييز بين ما يستقيم مع الحقيقة، وما يحيد عنها، بل ويعاديها بصورة ما. كنت منذ فترة تحدثت في أكثر من مدونة عن الحجاب كمفهوم في مقابل الحشمة، ومقال آخر عن تأثر اختلاط المفاهيم هذه على من يحاول التعامل مع فكرة الحجاب على أرض الواقع، فتجد الفتاة إذا ما نزعت غطاء رأسها عنى هذا بالنسبة لها أن المنظومة كلها سقطت، وبالتالي فليس عليها أن تلقي بالا لفكرة الحشمة ككل وليس فقط أجزاء منها، وتجد الرجال لا يخطر ببالهم أن مفهوما كهذا يمت لهم بصلة من الأساس.
مؤخرا يشغلني جدا أمر "الفاشونيستاس" أو فتيات الموضة على برامج التواصل، ولا سيما من يقدمن نفسهن على أنهن ممثلات للموضة المحتشمة (Modest fashion) أو موضة الحجاب (Hijab (Fashion، ومنهن من تتخذ هذا المنصب إلى جانب ما تفعله في حياتها والذي لا علاقة له بالموضة، ولكن لأن الموضة والأزياء والزي اليومي تأتي بالتعليقات والإعجابات والمشاركات فلا بأس من جعلها ضمن نطاق اهتمامنا. ثم تخرج هذه الاهتمامات إلى حيز الدعاية والإعلان، واستقبال العينات المجانية والحملات الإعلانية المدفوعة، وكل ذلك يدخل في مجال أكل العيش عندي إن كان متلبسا بلباس التجارة البحتة، ولكنه ليس طبيعيا بحال من الأحوال أن ترغب تلك الشخصيات في ضرب كل العصافير بحجر واحد.
لماذا تعتبر تسمية مثل "الموضة المحتشمة" إشكالية بالنسبة لي؟
عندما ننظر لممارسات الفاشونيستا فنحن نقع أمام سلوكيات تتناقض تماما وما تنسبه لنفسها، فلا هي تراعي الحشمة بالمظهر ولا بالجوهر، ولا بنفع الناس أو بمراعاة مدى المصداقية فيما يقدم لهم
لأن الموضة بوضعها الحالي وسياقها الحداثي ليست متناسبة مع مفهوم الاحتشام، فهي قائمة على مبدأ الظهور، مبدأ التميز بالشكل، مبدأ المرئية، وتغذيها الرغبة في التميز غير المحمود. التميز النابع لا من قيمتي الداخلية أو من خدمة أقدمها، ولكن من مجرد ظهوري بمظهر معين يسترعي الانتباه والإعجاب والتقدير. والحشمة في أساساها مفهوم يعتمد على التغلب على هذه الرغبة، لذلك كان من أساسيته عدم التزين فوق الزينة الطبيعية، وليست الزينة محصورة على كشف الجسد، فكم من جسد يتزين دون أن يظهر منه ما يوازي عقلة إصبع.
وفي معجم اللغة العربية المعاصر، احتشم الشخص: أي سلك في حياته مسلكا محمودا وسطا، وفي لسان العرب، الحِشْمَةُ: الحَياءُ والانْقِباضُ، والحِشْمَةُ: الانقباض عن أخيك في المَطْعَمِ وطلبِ الحاجةِ. لذلك فإن مفهوم الحشمة كما نعالجه تحت باب ضيق ومختزل في فكرة المظهر، بينما هو في الحقيقة أمر يتخلل سلوكنا في الحياة عامة. والحشمة من الحياء، والحياء ليس الخجل كما يعتقد الناس، وليس صفة تفترض انخفاض الصوت وغضّ الطرف فقط، إنها خصلة ينبغي معها أن يستحي الإنسان من الله في كل فعل يقوم به، يستحي أن يؤذي عباده لأنه في هذا الأذى تحد لقوته، يستحي أن يسرف في إنفاق رزقه لأنه بهذا لا يقدر نعم الله حق قدرها، يستحي أن يبذل الجهد في غير محله، لأنه بهذا يحيد برسالات الله عن طريقها.
لذلك عندما ننظر إلى تلك الممارسات من الفتيات والرجال معا – نعم فتأثير الفاشينستاس لم يعد مقتصرا على الإناث، يكفي بحث بسيط لتجد أنه امتد إلى الرجال على حد سواء – عندما ننظر إلى هذه الممارسات فنحن نقع أمام سلوكيات تتناقض تماما وما تنسبه لنفسها، فلا هي تراعي الحشمة في المظهر ولا في الجوهر، لا في استخدام الموارد أو بذل الجهد، لا في نفع الناس أو في مراعاة مدى المصداقية فيما يقدم لهم. نحن أمام بهرجة عمياء، لا ترى سوى عائدها الفارغ من الاهتمام بالشكل، وعائدها المادي الذي يحافظ على دوران هذه العجلة المفرغة من الهواء. نحن نعيش في عالم تتقاذفنا فيه الأهوال والمشاغل، وتأكل لحومنا في تكاليف الحياة ومطالبها، فهل من الحكمة فعلا أن نغذي هذا برغبة في الإنفاق المادي والمعنوي على هلاهيل من قماش لا تضيف لنا شيئا سوى تغذية هوى لنا في أن نكون مرغوبين ومحبوبين ومثار اهتمام؟
في خضم هذه المعمعة مررت بمشروع طموح ومتواضع في نفس الوقت، لمصمم ثياب شاب أميركي من أصل فلسطيني/فلبيني اسمه صبحي طه. تقوم فكرة المشروع على خط ملابس يستمد إلهامه من عدة ثقافات ولكن يظهر فيه التأثير الإسلامي الزاهد، الألوان غالبا هادئة وموحدة، التصاميم بخطوط عامة لا مغالاة فيها ولا تعقيد، ولكن أبرز مواصفاتها أن تلائم النساء والرجال معا. كانت فكرة المصمم أن يزيح الجنس تماما من هذه المعادلة، أن يتعامل مع الاحتشام على أنه فكرة عامة إنسانية، تبتعد عن الجسد وتقترب من الروح.
بطبيعة الحال هناك فروقات في المظهر النهائي طبقا لكونك رجلا أو امرأة، كأن تضيف المرأة شالا لشعرها ويضيف الرجل قلنسوة مثلا.. ولكن الفكرة العامة وصلت. وهي إضافة إلى ذلك خط ثياب لا يلتزم بفكرة المواسم، كما هو الحال في سوق الموضة، ربيع صيف، وخريف شتاء، بل هو يحرر المستخدم من هذا التقييد، إن السوق لن يحدد لك ما تلبسه ومتى، بل أنت الذي تحدد. وهي فكرة غائبة فعلا عن الجموع التي تلهث وراء ما تلقي به الأسواق كل عام وكل فصل. موضة 2018 هي كذا وكذا، وموضة 2018 اختلفت عنها، فلابد من تحديث الخزانة، ولابد من تغيير الألوان.
عن نفسي أجد أن هذا الصبي قد أُلهِمَ مركزية فكرة الحشمة، حصل على الزبدة كما نقول، تعامل مع فكرة "الموضة" وتصميم الثياب من منطلق إيماني منبعه التحكم في الجسد، لا الخضوع له. لقد كون مفهوما عمليا يطبق به مقولة أن نتحكم نحن في حبنا للجمال، فنرسم جمالا هادئا يخدم أهدافنا الأسمى ويسهلها، ولا نستجيب لمحبة الجمال بتعبير صاخب، شديد الوهج، بصورة تعمينا على رؤية حقيقته، وهي أنه وسيلة وليس غاية. أو على الأقل ليس الجمال المادي.
لا أعرف لماذا تذكرت وأنا أكتب هذه المدونة الأندلس، ربما لأنني بصدد إعداد بحث عنها، استغرقني لدرجة جعلتني أمضي شهورا في قراءة نصوص ومطالعة سجلات، والتعرف على روايات جعلت من الأندلس صورة أقل توهجا، بدأت وهي تشاغلني بحيلها المُبهرة، جمالها وأساطيرها، حكايات عن بهائها وجلالها، ثم شيئا فشيئا -كما هو الحال مع دخان الساحر الملون- انقشعت تلك السحابة الدخانية المبهرة وكشفت عن ميراث ثقيل ومُتعِب. كل تلك البهرجة العمياء، شغلت الناس حتى أشغلتهم، وأخذهم البهاء حتى ضاعوا فيه، وباتت الحقيقة غائبة بين أكوام من لذة العشق لكل ما هو بهي وجميل.
هل نريد أن نسلك نحن أيضا هذه الدروب الخادعة؟ دروب البهرجة العمياء والجمال الخائب؟ هل نريد أن نظل نلاحق الصورة حتى نستيقظ يوما فنجد أنفسنا نتطاير في الهواء كرماد ورقة كتاب يتلاشى الوهج منها شيئا فشيئا حتى لا يتبقى سوى فراغ في موضع الصفحة المحترقة؟
هذه التدوينة منشورة على موقع مدونات الجزيرة
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.