صوت كلب ينبح في فناء المنزل.
يُروى أن سيدة قد نُعي إليها أخوها وخالها، فقالت: رحمهما الله. لكنها عندما نُعي إليها زوجها قالت: واحزناه!
بقدر ما أرَّق الجميع السؤال الشهير القائل: وأنت مُقتدر على السباحة، أيهم ستنقذ من الغرق إذا أُتيحت لك فرصة واحدة فقط، والدتك؟ والدك؟ أخوك؟ أختك؟ زوجتك؟ ابنك؟ ابنتك؟ ابن عمك؟ ابن عائلتك؟ شخص غريب من خارج قبيلتك؟ صديقك؟ عدوك؟ كلبك؟ بقدر ما أرَّق الجميع، بقدر ما كانت مجموعة من الإجابات غير شاملة للكثير من الجوانب الخفية لهذا السؤال ولإجابته، فتجد تلك الإجابات ترتكز إما على الجانب المثالي، أو الأناني غير الإنساني، أو التصرف الحكيم الواقعي الذي ترتضيه الفطرة الطبيعية للبشر.
هذا ما بدأ به إبراهيم حديثه مع أخيه قاسم وصديقه هاني، عندما كانوا جلوساً في منزل هاني، فأراد إبراهيم أن يجعل مجلسهم حيوياً بالأفكار والمنطق والتحليل، فقال لهما مُبتسماً بعد أن طرح عليهما السؤال آنف الذكر: من سينقذ كل واحد منكما؟
أجابا بلا تردد: "والدتي"، بل قالا: "والدتي بالتأكيد".
نظر إبراهيم نحوهما راجياً، وقال لهما مُبتسماً: أرجو أن تُفكرا مرة أُخرى.
قالا له ساخطين مُحتقرين: "هذا الأمر لا يحتاج إلى تفكير".
نظر إبراهيم حينها في عيونهما وهو يبتسم بدهاء: هل أنتما مُتأكدان؟ هنالك من سيُعارضكما وبشدة!
قاما بتشبيك أذراعهما فوق صدريهما مُظهرين امتعاضهما من تردد إبراهيم، وقالا له: يا لك من جاحد.
عندها ازدادت ابتسامة إبراهيم، قائلاً بعد أن هز رأسه موافقاً لهما: أنتما الآن قد أصبتما كبد الحقيقة.
نظر قاسم وهاني نحو إبراهيم مُستغربين مُندهشين، فعاجلهما قائلاً: إذاً لنجعل هذا الأمر هو مقياسنا جميعاً، وهو حفظ الجميل ورده.
إلى حد هذه اللحظة، من يختار أي خيار غير الوالدة سيكون مُستهجناً عند قاسم وهاني، لكن إبراهيم قال لهما ما زاد اندهاشهما: لدي من يختار غير الوالدة وجهة نظر! بل ووجهة نظر تُحترم! بل ووجهة نظر فطرية؛ لذا، سنناقش التصرف الحكيم والواقعي الذي ترتضيه الفطرة البشرية الطبيعية.
مرة أُخرى، وأنت مُقتدر على السباحة، أيهم ستنقذ من الغرق إذا أُتيحت لك فرصة واحدة فقط؟!
هي هي الإجابة "والدتي"، قاسم وهاني مع زفرة غاضبة.
مُحاولاً استيعاب غضبهما، قال لهما إبراهيم بكل هدوء وثقة: حسناً، حسناً، لا تغضبا. لكنني سأجعلكما تعدلان عن هذا الرأي في نهاية حديثي معكما وستريان ذلك.
قاسم وهاني يُقطبان حواجبهما أكثر فأكثر.
إبراهيم مُبتسماً: لنبدأ مرة أُخرى، ولنأخذها حالة حالة، وأرجو أن تصبرا عليّ قليلاً.
قاسم وهاني يُومئان برأسيهما موافقين ونظرات الحدة لم تفارق وجهيهما.
إبراهيم: أيهم ستنقذ من الغرق إذا أُتيحت لك فرصة واحدة فقط، كلبك؟ عدوك؟
بينما أطرق هاني رأسه للحظات، أجاب قاسم بدون تردد: عدوّي، فمهما بدر منه، فهو إنسان. لكن، أجابنا هاني مُتحرجاً بعد لحظة صمت مُسدلاً يديه بجانبه: لقد كنتُ في رحلة ثلجية العام الماضي، وسقطت في حفرة وكُسرت ساقي، لم يُخرجني منها سوى كلب أصبح فيما بعد كلبي هذا (وأشار إلى كلبه الموجود في فناء منزله)، بينما مشى أخي من جانبي دون أن يُنقذني بعد أن رمقني بنظرة تشفّ وشماتة (نظرة حزينة على وجه هاني مصحوبة بتنهيدة صغيرة)، لذا، سأنقذ..
إبراهيم مُقاطعاً: توقف، لا تُجبنِ الآن، دعني أنهي طرحي، بعد ذلك سأعود لأسألك السؤال مرة أُخرى بجميع مكوناته.
إبراهيم ونظرة حازمة تعلو وجهه: أيهم ستنقذ من الغرق، قريبك؟ أم شخص غريب؟
قاسم وهاني بدون تردد: القريب بالتأكيد.
إبراهيم ونظرة شفوقة اعتلت وجهه مصحوبة بضحكة تندّر: أنتما لم تلاحظا أنكما تقومان باختيار الخيار المُتوقع، لكنكما تفترضان الاهتمام بشكل تلقائي، لكن الأمر على أرض الواقع لا يكون كما تتوقعان، فكم من غريب، خير من قريب، وكم من غريب وقف معك وساندك واهتم بك! وكم من قريب لم تنَل منه سوى الأذى والعذاب! وكم من عدو افتراضي فرضته عليك بعض العادات أو الأفكار البالية، لم تجد منه سوى المحبة والتضحية! وكم من صديق افتراضي، لم تجد منه سوى الخيانة والنذالة.
قاسم، مُطرقاً رأسه، مُسدلاً يديه، أسوة بهاني.
إبراهيم صادماً بنظرة حادة: أيهم ستنقذ من الغرق، والدك؟ أم شخص غريب؟
قاسم وهاني صامتين واجمين، فيما علت وجهه إبراهيم ابتسامة انتصار صغيرة.
صمت عمّ المكان للحظات، فيما استمر كلب هاني بالنباح.
إبراهيم بعد زفرة ساخنة: للأسف هذه هي الحقيقة، وهذا هو الواقع، فشاب قام والده برميه في الشارع بعد أن طلق والدته، وأهمله وآذاه؛ ليقوم شخص غريب بإيوائه والاهتمام به والإنفاق عليه، ليس لشيء، سوى أن يحيا حياته كما يشاء دون تدخل منه أو تسلط، هل تتوقعون أن من حفظ الجميل ورده لهذا الغريب أن يتركه؟!!
هاني مُمتعضاً: لكنه أبي.
إبراهيم مُقاطعاً ونظرات الحزم تعتلي وجهه: لم أقُل من البداية أمك أو أبوك، بل قلتُ والدتك ووالدك؛ لأن الأمومة والأبوة تقتضي اهتمامهما بك، أما الولادة فلا، فكم من والدين لم يكن هدفهما من الإنجاب سوى استعباد أبنائهما، ولا يجد منهما أبنائهم سوى الإهمال والطرد والأذى.
قاسم مُبادراً مُتندراً بابتسامة ماكرة: إذا أيها الحكيم، أيهم ستنقذ من الغرق إذا أُتيحت لك فرصة واحدة فقط؟!
سأنقذ أكثرهم اهتماماً بي! ولن أتردد في ذلك للحظة واحدة، إبراهيم والحزم يعلو وجهه بعد أن قطَّب حاجبيه.
قاسم وهاني يهزان رأسيهما إعجاباً بقول إبراهيم، ولو قال ذلك لهما من البداية لقاما بضربه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.