فكرة "عزيزي الله" والرسائل التي تُكتب إليه ليست بالفكرة الجديدة، فالأطفال في بعض البلاد يكتبون رسائل إلى الله قد تحوي سطراً واحداً، أو تساؤلاً واحداً بدافع عفوي طفولي بريء.
واليوم قررت أن أكتب لك رسالة ليست هي الأولى، أكتبها بالرغم من الهجوم الشديد على رسالتي السابقة لك، بدايةً من اختيار العنوان "عزيزي الله" واستنكار استخدام لفظ "عزيزي" مع خالق الكون! مروراً بكل التساؤلات الموجودة به.
تلك المقدمة ليست لتبرير الفكرة ولكن للتوضيح فقط، هذا النوع من الموضوعات لا يهدف إلى البحث عن إجابة للتساؤلات التي تحويه، ولا يبحث عن خُطب عصماء، أو ردود مُعلبة محفوظة، وهو أيضاً ليس دليلاً على الكُفر، والعياذ بالله.
هي مجرد أفكار وتساؤلات حُرة، أغلبها من مشاهدات يومية ومن أقوال العديد من الناس، هي مجموعة من الخبرات الحياتية التي تقدم صورة غير حقيقية عن الله!
هي مجموعة أفكار نابعة من العقل الذي خلقه الله للاستخدام، فإن كانت صحيحة أم خاطئة فهي موجهة إلى الله القادر على تصويبها، والله هو الحكم الوحيد عليها وليس البشر.
عزيزي الله..
عرفت اسمك وقتما عرفت اسم والديّ، وقالوا إن صورتك وشخصك تنعكس بشكل أو بآخر على البشر وعلى تصرفاتهم وتعاملاتهم، وعليه، فإذا أردت أن أراك سأرى جزءاً من ملامحك في المحيطين.
وأنا صغير شعرت بحنانك في احتواء يد أبي لي، ورأيت حبك في مقدار حبه المحيط بي، ورأيت عطاءك في كل هدية يمنحها لي.
كان هذا في الصِّغر، وعندما تقدمت في الأيام أصبح بعض الحُب مشروطاً، فأصبحت مقبولاً عندما أحقق درجات عالية في الدراسة، وعندما أتحدث بشكل لائق أمام الضيوف، وعندما أحافظ على ملابسي نظيفة.. وهنا بدأ التساؤل:
عزيزي الله.. هل أنت أيضاً حبك مشروط للبشر؟ أتحبهم وهم بلا إثم فقط؟ وإن كان هذا، فمن يتزكّى أمامك؟ ومن سيتمتع بحبك في الحياة؟
اتسعت دائرتي ولم تعد قاصرة على أسرتي الصغيرة، بل امتدت إلى العائلة الكبيرة أيضاً، وزادت ملاحظتي في كل تجمع للعائلة.
وتعجَّبت من كَمّ المقارنات التي تُعقد بين أفرادها، البنات في مقارنة ومنافسة بعضهن مع بعض، والبنين أيضاً لم ينجوا من تلك الشبكة من المقارنات مع اختلاف عناصر المقارنة.
وبطبيعة الحال في المقارنات لا بد أن يكون طرف متفوقاً على الآخر وأفضل منه في شيء.. هذه أجمل.. هذا مفتول العضلات.. قوامها ممشوق.. عيناها.. شعرها… سلسلة لا نهائية من التقييم.. وكان تعجُّبي:
عزيزي الله.. هل تعقد المقارنات بين البشر على هذا النحو؟ ألديك أفضلية بينهم بحسب معايير معينة؟ وهل معاييرك كمعايير البشر أم أنها مختلفة؟
وانتقلت إلى مرحلة أخرى، وهي مرحلة التعلم عنك، وكنت طالباً مجتهداً متميزاً، إلى أن سألت أول سؤال عن طبيعتك لمعلمي، ولم يكُن رده إجابة ولكن كان هجوماً، فكيف أسأل مثل هذا السؤال! عليّ باستغفارك عما صدر عني من تساؤل. وتحولت من طالب متميز إلى طالب مشاغب كل جريمته كانت مجرد سؤال.
وكتبت لك في ورقة صغيرة وقتها:
عزيزي الله.. لماذا تغضب من الأسئلة التي تصدر من العقل الذي خلقته أنت؟ هل له وظيفة أخرى غير التفكير لم نكتشفها بعد؟
واتسعت الحياة أكثر وأكثر، ورأيت تصنيفات البشر الكثيرة، هذا كافر.. هذا منحرف.. هذا مُنتحر.. الأغرب كان الحكم على مصير الشخص النهائي، هذا سيذهب الجنة، وهذا مصيره النار! وأدركت أننا نصَّبنا أنفسنا آلهة على بعضنا؛ لأنك وحدك علّام الغيوب وكاشف القلوب، فكيف يفعل البشر هذا؟
عزيزي الله.. مَن يعلم غيرك مصائر البشر؟ ومَن يدري حال الزاهد وهو على فراش الموت ولا حال القاتل وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة؟! لعل الزاهد يكفر بك والسارق يتوب إليك، من يعلم!
عزيزي الله.. أغلب الظن ونحن صغار كنا نراك بشكل بسيط وسهل، بساطة الحياة في تلك المرحلة، كنت موجوداً في كل التفاصيل الصغيرة المتعلقة بطفولتنا، بداية من العروسة اللعبة والعربة التي نتسابق بها، مروراً بضحكاتنا العالية غير مبالية بشيء في الحياة.
كان حديثنا معك بسيطاً غير متكلف حتى ونحن على أسرّتنا، كنا نشكرك على الألعاب التي أرسلتها لنا، ونطلب منك التئام جروح أيادينا وأرجلنا من أثر لهونا طيلة اليوم، كنا نراك الشخص العطوف مصدر كل الخير والشفاء.
عندما كبرنا قليلاً، وضعوا لنا تقاليد وأوقاتاً وطرقاً لمخاطبتك، وظهر في حياتنا مدرس المدرسة الذي يوجهنا إلى سلوكيات معينة ويقول: إن الله يغضب مما عداها! وتعالت أصوات أبي وأمي وهما يصرخان من لعبى وتقصيري في بعض الأمور ويقولان نفس الجملة: "ربنا مش بيحبك كده".
وبدأ التساؤل: عزيزي الله.. "هل أنت مثلنا تُحب وتكره، وتميز بين البشر بحسب أعمالهم؟" كنت أظن في الصغر أنك طاقة الحُب التي لا تميز بين البشر، كنت أظن أنك تحب البشر بلا حدود وتُدرك أنهم مخلوقون يُخطئون، فلا تتفاجأ مما يفعلون!
كبرنا أكثر ورأينا حروباً وأمراضاً وقتلاً، وقال البعض إنك مصدر هذا كله.
عزيزي الله.. هل أنت بالفعل مصدر كل هذا؟ كنت أعلم في الصغر أنك مصدر الخير فكيف تكون مصدراً للشرور أيضاً؟ وكيف يحكم الناس على ما هو ابتلاء، وما هو امتحان؟!
الشيء الوحيد الذي لم يتغير، هو أن كل الأسئلة كان مسموحاً لنا بها إلا الأسئلة التي تتعلق بك.
حينما كنا نسأل أسئلة الأطفال الساذجة: من أين أتيت؟ وأين تسكن؟ وما هو شكلك؟ كُنا نُتهم بالكُفر.
عزيزي الله، لم تكن تلك الأسئلة هدفها الكُفر بك بل هدفها معرفتك بشكل أكبر وأعمق، ولكن لم يعطِنا أحد فرصة معرفتك في الصغر، وحقيقة الأمر ولا في الكِبر!
عزيزي الله، لم أجد لفظ غير "عزيزي" فهو الأقرب لقلبي، ويقيني أنك تقبل كل الأحاديث الموجهة إليك من البشر، فأنت علام القلوب الذي لا يحكم بالظاهر ولا بالأقوال والألقاب.
عزيزي الله، ما أبعد السماء وأبعدك حينما نستمع إلى البشر، وما أقرب السماء وأقربك حينما نستمع إليك وتستمع إلينا في حديث شخصي، ويقيني أنك قريب تجيب دعوة الداعي إذا دعاك.
وسأظل في تلك المعرفة باستمرار ولن أدركك للتمام، فلن يحوي المحدود غير المحدود بعقله، ولكن روحه تسعى أن تُحتَوَى.
عزيزي الله.. أستغيث بك مُحتمياً مني فيك طارحاً عندك جهلي ومعرفتي، عقلي وقلبي، نفسي وروحي.
أجيء إليك بطفلي المُلتصق بحضنك والمعانق لك، وراشدي الذي يركض في اتجاه معاكس له، وكهلي الذي يطلب من يقوده في الطريق.
أجيء إليك بجبالي المنقلبة رأساً على عقب، بصراعات الجبال والسهول في أعماقي. فدع الحمل يركض بجوار الأسد بداخلي.
(إلى رسالة أخرى)
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.