لماذا تخلف العالم العربي والإسلامي؟

ومما لا يمكن أن يغفر للدولة العثمانية أنها عندما جاء محمد علي باشا وأقام دولة حديثة وقوية وأنشأ الجامعات والمدارس الحربية والصناعية وتوسع خارج الإقليم المصري، وأنشأ الأساطيل الحربية وبدأت أوروبا تخشى من الدولة الوليدة التي ستوحد العالم العربى كقوة جديدة ترث ممتلكات الدولة العثمانية.

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/24 الساعة 08:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/24 الساعة 08:39 بتوقيت غرينتش

كان السؤال الأكثر حيرةً لي دائماً يراودني: لماذا تخلفنا؟ ولماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟

اكتشفت أنه للإجابة على هذا التساؤل عليك أن تقرأ تاريخ عالمنا العربي والإسلامي مع تاريخ أوروبا في العصر الحديث؛ لكي تستطيع أن تصل للإجابة عن هذا التساؤل.

في الحقيقة فإن عوامل الإجابة على هذا السؤال ترجع إلى أحداث تاريخية متواصلة سأحاول تلخيصها في الآتي:

أولاً: الغزو المغولي

بخلاف الحروب الصليبية التي خاضها العالم الإسلامي مع الصليبيين، إلا أن هذه الحروب الصليبية لم تعرقل النمو الحضاري للعالم العربي والإسلامي، بل بالعكس كان الصراع في بعض جوانبه دافعاً على التطوير والتقدم والتبادل بين الحضارتين، فبينما كان الصليبيون الأوروبيون أهلاً للحضارة كان التتار همجاً متوحشين لا يعرفون أي قيمة للعلوم والتراث الحضاري.

فكان نتيجة غزو بغداد تدمير مكتبتها الضخمة وإلقاء محتوياتها في نهر الفرات. وكان يعني هذا تراجع أو انتهاء الدور الحضاري للعالم العربي، فبعد اجتياح المغول للعالم الإسلامي لم يشاهد للعرب بعد ذلك مساهمة في الدور الحضاري وخفت تأثيرهم في مختلف العلوم والفنون.

ثانياً: معركة الأندلس

الحدث الأهم بعد غزو بغداد كان سقوط الأندلس، جامعة العلوم الأموية التي سيطر عليها ملوك قشتالة وليون، وبعكس التتار الذين دمروا التراث الحضاري العربي كان الأوروبيون يترجمون فلسفات ابن رشد وعلوم الرياضيات والخوارزميات (أي اللوغاريتمات) وجغرافيا البيروني والإدريسي وكيمياء ابن حيان والبصريات لابن الهيثم وكتب الطب للرازي وابن النفيس، وغيرها.

وكان الحدث الذي غيّر العالم قاطبةً وهو اكتشاف الأميركتين راجع لكتابات العلماء العرب والتي ترجمها الإسبان بعد سقوط الأندلس وبفضلها اكتشفوا الأميركتين، فكان من انتصر في معركة الأندلس هو من اكتشف الأرض الجديدة ومن اكتشف الأرض الجديدة الأميركتين حكم العالم من بعدها فكان سقوط الأندلس هو ثاني ضربة قاصمة للعالم العربي والإسلامي بعد الغزو التتاري.

وكان استيلاء الأوروبيين على التراث الثقافي والحضاري العربي في الأندلس وما يعنيه من فكرة الاستحواذ عليه هو مانع من استمرار النمو العلمي والثقافي والحضاري للعالم العربى.

فكما حرم المغول العالم العربي من تراثهم الحضاري والثقافي بتدميره كذلك حرم الأوروبيون العالم العربي من تراثهم الحضاري والثقافي بالاستحواذ عليه بعد سقوط الأندلس.

ثالثاً: الدولة العثمانية

للدولة العثمانية فضل كبير ودور عظيم في العصور الوسطى يتمثل في حماية العالم العربي والإسلامي من خطر الاستعمار الإسباني والبرتغالي الذي أخذ شكل التطهير العرقى في ذلك الوقت؛ حيث استخدم الإسبان بعد سقوط الأندلس أشد الأساليب وحشية للتطهير العرقي من خلال محاكم التفتيش وغيرها، والتي استخدموها أيضاً مع سكان الأميركتين في الإبادة والتطهير العرقي وتغيير اللغة والدين لسكان الأميركتين في ظل غياب الوعي والضمير الدولي اللذين لم يكونا تشكّلا بعد.

فلولا وجود الدولة العثمانية في ذلك الوقت لاختفت ملامح الدول العربية وأصبحت مستعمرات إسبانية وبرتغالية تتكلم اللغات اللاتينية، إلا إن وجود الدولة العثمانية في ذلك الوقت قد حال دون ذلك.

ومع هذا الفضل الكبير للدولة العثمانية، إلا أن الدولة العثمانية أيضاً كانت من أهم الأسباب والعوامل التي أدت إلى تخلف العالم العربي والإسلامي، فبعكس الدولة العباسية في بغداد التي كانت تموج بالصراعات والنقاشات الفكرية والفلسفية والدولة الأموية في الأندلس التي كانت مركز وجامعة العلوم التطبيقية كانت الدولة العثمانية تعطي أهمية أقل للتعلم والعلوم والتراث الثقافي والحضاري فكانت الأهمية الكبرى لديها ترتكز على القوة العسكرية وتطوير قدراتها الحربية وتوسيع رقعة الإمبراطورية.

بالإضافة إلى أن الدولة العثمانية انتهجت أسلوب إضعاف الولايات التابعة لها خوفاً من استقلالها فكانت لا تهتم بالولايات التابعة لها مثل مصر، وتركت أمورها الداخلية لأمراء المماليك والوالي العثماني الذي لم يكن يهتم بتنمية الولاية ولا بتطوير التعليم بها، مما أدى إلى أن أصبحت هذه الولايات جزراً منعزلة عن حركة الثقافة والحضارة العالمية ويغطيها ظلام الجهل وفقر التنمية ثم أفاقت بعد ذلك على صدمة الاستعمار الأوروبي الفرنسي والإنجليزي في القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي، والذي أوضح الفرق الحضاري بين دول العالم العربي ودول الغرب الأوروبي.

ففي الوقت الذي كانت الدولة العثمانية تحرم استخدام آلة الطباعة الحديثة؛ لأن الأحبار المستخدمة تحتوي على مواد نجسة يخشى أن يطبع بها القرآن وكتب الفقه والشريعة الإسلامية.

كانت الدول الأوروبية في ذلك الوقت تترجم الفلسفات اليونانية والعلوم العربية وتبني الجامعات الكبرى وتطور أساليب الدراسة والبحث العلمي وتستخدم ذلك في تطوير أساطيلها للوصول إلى الأميركتين وتطوير معداتها الحربية.

ثم جاءت الحروب الأوروبية – الأوروبية كالصراع بين الإنكليز والإسبان وكحرب المائة عام بين الإنكليز والفرنسيين لتطور القدرات الحربية والعسكرية لدول الغرب الأوروبي لتصير لهم السيادة العسكرية والعلمية بفارق عن الدولة العثمانية التي دخلت في مرحلة الأفول والتراجع وسيطرت عليها مشاكلها وصراعاتها الداخلية.

ففي الوقت الذي كانت تسير فيه أوروبا بخطى مطردة نحو السيادة العالمية كانت الدولة العثمانية لا تولي للحركة العلمية والثقافية في الولايات التابعة لها الأهمية المطلوبة وتحرم الطباعة، ولا توجد حركة علمية تقود العالم العربي في العلوم التطبيقية وحتى في العلوم الشرعية التي أصابها الجمود بسبب غلق باب الاجتهاد في الفقه.

حتى إذا جاء القرن التاسع عشر كانت الدولة العثمانية قد ضعفت ولم تعد قادرة على الحفاظ على الولايات التابعة لها فانقض عليها المستعمر الأوروبي ليقسم تركة الرجل المريض.

محمد علي باشا

ومما لا يمكن أن يغفر للدولة العثمانية أنها عندما جاء محمد علي باشا وأقام دولة حديثة وقوية وأنشأ الجامعات والمدارس الحربية والصناعية وتوسع خارج الإقليم المصري، وأنشأ الأساطيل الحربية وبدأت أوروبا تخشى من الدولة الوليدة التي ستوحد العالم العربى كقوة جديدة ترث ممتلكات الدولة العثمانية.

خافت الدولة العثمانية على ممتلكاتها أن ترثها قوة عربية جديدة وقوية واستنجدت بالدول الأوروبية وهم الإمبراطورية النمساوية والإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الروسية وبورسيا، وطلبت منهم نجدتها وأعانتها ضد محمد علي باشا فأصدرت الإمبراطوريات العالمية العظمى وقتها مجتمعة إعلاناً لمحمد علي باشا ينذره بالرجوع إلى حدود الإقليم المصري، ويطلب منه غلق الصناعات الحربية والمدارس الصناعية التي فتحها، وأن يفتح الأسواق المصرية أمام التجار الأوروبيين، ويفرض عليه قائمة بالشروط الاستعمارية، وإلا فإن لم يستجِب لهذه المطالب فإن الإمبراطوريات العظمى هذه مجتمعة ستعلن الحرب عليه، وذلك فيما عرف بمعاهدة لندن 1840م التي لم يكن محمد علي يملك أن يرفضها ولا يقدر أن يواجه هذه الإمبراطوريات مجتمعة.

فكان هذا الحدث من أكبر جرائم الدولة العثمانية في حق الدول العربية التي كانت من الممكن أن تسير نحو تقدم حضاري وضع أساسه جهود محمد علي باشا في الصناعة والزراعة وإنشاء المدارس والجامعات وتطوير الأسطول الحربى؛ حيث كانت مصر في ذلك الوقت تسيطر على الشام والحجاز والسودان، وبذلك كانت من الممكن أن تنقل هذه النهضة العلمية والصناعية والحربية إلى باقي البلدان العربية تباعاً، إلا أن ذلك لم يحدث وتم وأد الحركة الحضارية والصناعية لمحمد علي باشا قبل أن تتطور وتنتقل إلى باقي البلدان العربية المتخلفة عن ركب الحضارة العالمية وقتها.

رابعاً: الغزو الاستعماري الأوروبي

الغزو الاستعماري الأوروبي ازداد في البلدان العربية، خاصة بعد انهيار مشروع محمد علي باشا الحضاري في مصر، وأصبحت البلدان العربية فريسة سهلة لدول الاستعمار الأوروبي في ظل ضعف وتراجع قوة الدولة العثمانية، وعلى الرغم من أن الاستعمار الأوروبي للدول العربية حمل معه بعض مظاهر التقدم العلمي والثقافي الغربي للعالم العربي، إلا أن الاستعمار الأوروبي حال دون تطور الصناعات في الدول العربية، ولم يهتم بالعملية التعليمية، ففي تقرير اللورد كرومر الحاكم العسكري لمصر بعد الاحتلال عام 1905 عن تدهور الصناعة يقول: (إن المنسوجات الأوروبية حلت محل المنسوجات الوطنية، ومن يقارن الحالة الراهنة بالحالة التي كانت منذ 15 سنة،

يرى فرقاً ضخماً، فالشوارع التي كانت مكتظة بدكاكين أرباب الصناعات والحرف من غزالين وخياطين وصباغين وخيامين وصانعي أحذية.. قد أصبحت مزدحمة بالمقاهي والدكاكين المليئة بالبضائع الأوروبية، أما الصانع المصري، فقد تضاءل شأنه، وانحطت كفايته على مر الزمن، وفسد لديه الذوق الفني الذي طالما أخرج في العصر القديم المعجزات في مذاخر الصناعة).

وبمجيء الاحتلال الإنكليزي دخلت مصر مرحلة جديدة في تاريخها سيطر فيها الأجانب على مقدرات البلاد، وأصبحت مصر مزرعة القطن الشهيرة وفتحت الأسواق أمام استيراد منتجات الدول الغربية، وعلى رأسها إنكلترا وشهدت الوقوف بحزم ضد أي محاولة للتنمية الصناعية الجادة.

خامساً: الفرصة الأخيرة

شاء القدر أن تندلع الحرب العالمية الأولى وتعقبها حرب عالمية ثانية أشد ضراوة منها، مما ادى إلى أن استفادت مصر من ظروف هاتين الحربين ودخلت البلاد أموال طائلة قدرت بـ 500 مليون جنية إسترليني، وخرجت مصر من الحرب العالمية الثانية وهي دائنة لإنكلترا بـ450 مليون إسترليني واضطرت بريطانيا بسبب ظروف الحرب إلى نقل التكنولوجيا الصناعية الأوروبية إلى الاقتصاد المصري لتمويل احتياجات جيوش الحلفاء في منطقة الشرق الأوسط؛ ليتكون لدى الاقتصاد المصري في أربعينيات القرن العشرين قاعدة صناعية قوية ومتطورة وقاعدة زراعية عريضة ومتنوعة وفائض مالي يمكنها من تطوير هيكلها الاقتصادي والصناعي، وكذلك حركة علمية وثقافية قادها المفكرون المصريون والعلماء وأسسوا الجامعات والمجلات والجمعيات العلمية والنقابات، وأخذت مصر شكل الدولة الحديثة وأصبحت أفضل من كثير من البلدان الأوروبية والآسيوية التي دمرتها الحرب العالمية الثانية.

ووضعت مصر على خريطة التصنيع والاقتصاد العالمي والتأثير الحضاري، وبذلك كان من الممكن أن ينتقل ذلك التأثير من مصر إلى باقي البلدان العربية المجاورة والمحيطة لها بصفتها البلد الذي كان قادراً على قيادة العالم العربي في ذلك الوقت والدخول به إلى ساحة الاقتصاد العالمي والحضارة العالمية إلا أن كل ذلك دمر مرة أخرى وضاعت على مصر ومن خلفها البلدان العربية الفرصة الأخيرة للحاق بركب الحضارة العالمية.

جمال عبد الناصر وضياع الفرصة الأخيرة

تسلّم جمال عبد الناصر مصر دولة قوية ذات اقتصاد متنوع وقاعدة صناعية وزراعية متطورة، وبدلاً من أن يكمل طريق التنمية والتطوير الذي كانت مصر تسير فيه إذا به يتجه لتأميم رأس المال الذي أوقف بدوره اتجاه التطوير الصناعي، واتجه إلى مصادرة الحريات وتكميم الأفواه والرقابة على الفكر والاتجاهات والدخول في حروب وصراعات قومية وتعزيز فكر الانقلابات العسكرية في اليمن والعراق وبلاد إفريقيا.

ومع ادعائه تطوير الصناعات فإنه في الحقيقة تسبب في تخلفها حينما سيطرت عليها الدولة بلا خطة حقيقية واضحة لتطويرها، ثم قاد المنطقة العربية لحرب مع إسرائيل أدت إلى احتلال إسرائيل أراضي خمسة بلدان عربية وهزيمة نكراء، توقفت بعدها قاعدة التطوير الصناعى، وتمت مصادرة كل موارد الاقتصاد لأغراض الحرب مع إسرائيل، مما أدى ذلك إلى تخلف الصناعات المصرية أجيالاً متتالية وتراجع دور الدولة في تطوير النشاط الزراعي.

حتى إذا خرجت مصر من حرب إسرائيل عام 1973 كان الاقتصاد المصري والصناعة المصرية ومن خلفها باقي الدول العربية قد تخلفت تماماً عن ركب الحضارة العالمية، ولم يعد بالإمكان اللحاق بركب الحضارة العالمية ثقافياً وفكرياً وصناعياً.

ولتبدأ المشكلة الاقتصادية والفكرية في التفاقم ويزداد تباعد مصر والبلدان العربية عن ركب الحضارة العالمية وتزداد مشاكل الاقتصاد وتزداد أعداد السكان بشكل مخيف دون وجود أي خطط اقتصادية واضحة ليس للحاق بركب الحضارة العالمية، ولكن لإمكانية الحياة الطبيعية بين الأمم المعاصرة على هذا الكوكب.

ومع تفاقم مشكل التخلف الحضاري وازدياد الفقر والجهل والمرض دخلت مصر في دائرة مغلقة من التراجع في الأخلاق والثقافة والذوق العام أثر بدوره أيضاً على الثقافة والأخلاق في العالم العربي لامتلاك مصر القاعدة الإعلامية والفنية الأكبر والأكثر تأثيراً في العالم العربي والذى ضاع وتاه بين مَن يحلمون بعودة الماضي المشرق دون أن يعرفوا السبيل إليه، ومن يتجهون إلى الانتماء إلى ثقافات العالم الغربي كبديل يحتويهم بعد ضياع هويتهم وحضارتهم وثقافتهم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد