هل حقاً ما زال هناك متسع؟

فلماذا لا نجعل لأنفسنا طوال الوقت ما يحفظ ذكرانا ومكانتنا في قلوب الآخرين؟ لماذا لا نعاجل بالاتصال بهم لنقول لهم بأننا نعزهم ونحترمهم وأن لا غنى لنا عنهم؟ لماذا نستبعد الفراق من تفكيرنا برغم أنه يتربص بنا طوال الوقت منتهزاً الفرصة لينقض علينا ويُنهي كل شيء؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/23 الساعة 03:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/23 الساعة 03:33 بتوقيت غرينتش

أسير في الشارع، فإذا بالناس يمشون مسرعين، كأن هناك مَن يطاردهم، كلٌّ غارق في عالمه الداخلي كمن لا علاقة له بما يدور حوله، لدرجة أن رجلاً وقع على الرصيف أرضاً في نوبة صرع، دون أن ينتبه له أحد إلا بعد مرور دقائق عدة.

انظر في وجوه الناس، تجد أمارات الهم والجد واضحة في وجوههم، وقلما ترى أطياف بسمة تلوح على شفاههم.

ماذا يجري؟ لمَ الكل مقطب هكذا؟ إلى متى؟ يأتي الجواب: عندما ننهي مهامّنا ونجد بعض الوقت لذلك.

منذ ما يزيد عن شهرين وأنا أعتزم الاتصال بأروى للاطمئنان على صحتها، علمت بمرضها ولم أستطِع عيادتها لمشاغلي الكثيرة التي لا تنتهي، خاصة لسكنها بعيداً عنّي.

وفي كل مرة أتذكرها خلال انشغالي أعقد النية على الاتصال بها ليلاً عندما يخفت الضجيج الذي يملأ أيامي.

ولكن ما إن يأتِ الليل حتى أكون مستنفدة حتى الرمق الأخير، فأنسى العالم وجميع من فيه حتى إنني أنسى نفسي أحياناً كثيرة، ما أتذكره فقط هو أنني بحاجة لراحة تسكن آلام عضلات كتفيَّ، ورقبتي، وذراعي، وظهري، فأنام وأستيقظ صباحاً متيبّسة العضلات والمفاصل، وكأنني كنت في مهمة شاقة وليس في السرير لعدة ساعات متواصلة.

كان الجو ماطراً شديد البرودة، خرجت من البيت على عجلة من أمري كما هي عادتي دائماً، وكأن الحياة ستهرب وتتركني مكاني، فأسابق الزمن للحاق بها.

ما إن مشيت خطوات عدة على أسفل الدرج الخارجي حتى زلّت قدماي وانزلقت، فوقعت أرضاً، وابتلت ثيابي واتسخت وتمزق المعطف الذي كنت أرتديه، بعد أن شَبَك بحديد الدرابزين.

لم أكن أمتلك معطفاً آخر في مثل سماكته وملاءمته لهذا الطقس، عدتُ للبيت مرة أخرى أسابق الريح، غيَّرت ملابسي، وخرجت بسرعة لأتدارك ما فاتني من الوقت.

من متجر للملابس بالقرب من مكان عملي اشتريت على عجل معطفاً آخر، وتركته عند مخيطة تقع إلى يمين المتجر لتعديل طوله على أن أمرَّ بعد انتهاء ساعات دوامي لآخذه. اضطررت في ذلك اليوم للتأخر لمدة ساعتين لإنجاز عمل طارئ وكَلني المدير بأدائه.

كنت شديدة الإنهاك عندما رحت أنزل الدرج خارجةً من العمل.. كدت أنسى المعطف، لولا أن الهواء اللافح في الخارج ذكَّرني به، فعدتُ بضع خطوات إلى الوراء لأخذه.

عمَّ المخيطة هدوء غامض، وقفت في الباب، طرقته من الداخل، ثم ناديت ولكن ما من مجيب، استغربت الأمر، فأنا بحاجة ماسَّة للمعطف، فإذا لم يكن بإمكان الخياط الانتهاء من تكييفه اليوم، لماذا طلب منّي أن أمرَّ لأخذه في المساء؟ أيكون تأخري في القدوم إليه هو السبب؟ ربما قد طرأ على الخياط ظرف ما جعله يترك المخيطة خاصة بعد أن تأخرت أنا في الحضور.

وخلال وقوفي حيرى، أُنصت بكامل جوارحي للنقاش الذي يدور داخلي، إذا بامرأة تقف أمامي قائلة: هل أستطيع مساعدتك بشيء ما؟
فأجبتها: لا أدري، ولكني تركت معطفاً عند هذا الخياط في الصباح، وأريد استرداده الآن حسب الاتفاق.

أطرقت المرأة قليلاً قبل أن تقول لي بحزن بدا جلياً في نبرة صوتها: لقد توفّي الخياط قبل ثلث ساعة. وقبل ما يقارب عشر دقائق حضرت سيارة الإسعاف ونقلته إلى المشفى.

اعترتني رجفة قوية، وكأنني وسط عاصفة تعصف بي وتتقاذفني، وانفطرت الدموع من عيني، ولم أستطِع الكلام.. لم أصدق ما قالت هذه المرأة، فربما تكون مخطئة، لقد كان الخياط في تمام الصحة والعافية في الصباح، كان يعمل بهمّة وحيوية على آلة الخياطة عنما أحضرت المعطف، فما الذي تغيَّر حتى يغادر هذه الدنيا فجأة؟!

عدتُ إلى البيت وقد أطبق على نفسي حزن عميق، صعدت الدرج بخطوات كئيبة، وما إن ولجت البيت حتى تذكرت أروى.

تناولت الهاتف، واستخرجت الرقم من القائمة، واتصلت.. انتهى الرنين دون إجابة. ضغطت على زر إعادة الاتصال مرة أخرى. وقبل أن ينتهي الرنين الثاني، فُتح الخط.
– ألو..
– السلام عليكم، أنا… صديقة أروى، هل لي أن أتحدث إليها؟
صمتت المتحدثة قليلاً وقالت بصوت حزين: أروى انتقلت إلى جوار ربها. أرجوك ادعي لها بالرحمة.
– لا حول ولا قوة إلا بالله، عظم الله أجركم. منذ متى حدث ذلك؟
– قبل ثلاثة أسابيع تقريباً.
– رحمها الله وجعل الجنة مثواها.

أغلقت الخط، وقد أظلمت الدنيا في عيني، صُدمت ورحت في نوبة بكاء شديد، تضاءلت الدنيا في عيني، ومضيت أقول لنفسي: نركض طوال الوقت في هذه الدنيا، نسابق الزمن، نؤجّل الكثير من الأشياء التي تحفظ لنا إنسانيتنا، وتدخل البهجة على قلوبنا وقلوب مَن نحب، لا نجعلها في سلم أولوياتنا، نؤجلها بحجة كثرة المشاغل والضغوط إلى وقت آخر ننتظره أن يهل علينا في يوم ما، لنفاجأ بالأجل يعاجلنا، فيذهب كل شيء إلى غير رجعة.

فلماذا لا نجعل لأنفسنا طوال الوقت ما يحفظ ذكرانا ومكانتنا في قلوب الآخرين؟ لماذا لا نعاجل بالاتصال بهم لنقول لهم بأننا نعزهم ونحترمهم وأن لا غنى لنا عنهم؟ لماذا نستبعد الفراق من تفكيرنا برغم أنه يتربص بنا طوال الوقت منتهزاً الفرصة لينقض علينا ويُنهي كل شيء؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد