من الشخصيات المعاصرة التي مرت بتجربة الإلحاد في بدايتها الفكرية: الدكتور مصطفى محمود، والذي لا يعرفه الناس إلا في مرحلة إيمانه، وبخاصة في برنامجه الشهير: العلم والإيمان، والذي سبقه مرحلة كان فيها مصطفى محمود ملحدا. ولم يقف عند الإلحاد فقط، بل كتب في ذلك كتابات عبرت عن رؤيته وقناعته بالإلحاد، وكتب أول كتبه "الله والإنسان" بلغة وفكر كله إلحاد واضح. وقد نشر الكتاب في نهاية خمسينيات القرن العشرين، وقد أثار كتابه ضجة وقتها، حيث نشر الكتاب مقالات أولا، ثم جمعت في كتاب. وقد استاء عدد من القراء، فكتبوا سؤالا لدار الإفتاء المصرية لكتابة رأيها في الكتاب والكاتب.
والعجيب، أن الفتوى صدرت عن دار الإفتاء المصرية، تعليقا ونقاشا للكتاب، ولم يدر أحد بها؛ لأن المفتي والدار كتبوا في نص الفتوى: سؤال عن كتاب "الله والإنسان" للدكتور م. م. ولم تحرص على ذكر الاسم، متجاهلين بذلك التركيز على الاسم، أو التشهير به. ولم يعلم مصطفى محمود نفسه بها، كما أخبرتني ابنته. فقد كنت قبل وفاة مصطفى محمود بعامين في احتفالية اتحاد الأطباء العرب، في حفل تكريم مصطفى محمود بحضور كريمته أمل، وقد تفاجأ الحضور، وكان من بينهم: د. محمد عمارة، والأستاذ فهمي هويدي، والأستاذ لويس جريس، عندما علموا أن لدار الإفتاء المصرية فتوى في مصطفى محمود. ويبدو أن القلق انتاب معظم الحاضرين، فقد توقعوا، والكتاب كتب بلغة إلحادية، ودعا فيه الكاتب للإلحاد، أن تكون الفتوى من أعنف ما يكون، ولكن كانت المفاجأة التي أعتقد أن القارئ سيفاجأ كما فوجئوا؛ بفتوى كانت متزنة وقوية في نفس الوقت، ناقشت المضمون دون الدخول في شخص الكاتب.
لقد كتب مصطفى محمود كتابه، وقد امتلأ بالمعلومات المغلوطة عن الإسلام، ونحى منحى إلحاديا واضحا، وهذا ما أوضحه التقرير الذي أصدرته دار الإفتاء المصرية.
فقد اعتمد على معلومات عن الإسلام، مصدرها عوام الناس، وليس مصادر الإسلام الصحيحة. وميزة تقرير المفتي أنه لم يعتمد في مصادره عن الكتاب بما يشاع، أو بما نشر في الصحف عن الكتاب، بل قرأ كل حلقات الكتاب، ثم الكتاب نفسه، ونظر إليه نظرة فاحصة، بتأن شديد، وناقش كل ما ورد في الكتاب من آراء، وردها إلى صوابها. ولم يدع لمصادرة الكتاب، ولم يدع إلى تكفير كاتبه، بل كان حانيا عليه إلى درجة كبيرة، ثم ذكر نقاط الاتفاق التي يتفق فيها مع الكاتب، من حيث تقدير العلم، والرجوع إليه، وذكر نقاط الاختلاف معه، وأوضحها بكل ما لديه من أسانيد علمية، يحتكم إليها الدكتور مصطفى محمود نفسه.
كما اهتم المفتي في تقريره بنقاش الأسباب التي أدت بمصطفى محمود إلى الإلحاد في كتابه، ورده إلى جذوره الدينية والتي ركز عليها في كلامه. ولم يهتم المفتي بإصدار رأي في الكاتب، بقدر ما اهتم بتحليل أسباب جنوحه للإلحاد، والعمل على إزالة هذه الأسباب علميا. ولم يتخذ المفتي في تقريره؛ كتاب مصطفى محمود ذريعة للنيل منه، أو التجريح فيه، بل كان التقرير نموذجا لما نتمنى أن تكون عليه المؤسسة الدينية في كل تقاريرها عن مثل هذه الأعمال وغيرها.
كما كان ختام تقرير دار الإفتاء رائعا، يدل على التعامل بروح الإسلام مع المؤلف، فقال المفتي في ختامه: نسأل الله لهذا الكاتب وأمثاله الهداية والرجوع إلى الحق، فإن الرجوع إلى الحق فضيلة. تلك كانت دعوة المفتي في نقاشه لمصطفى محمود الملحد، فكيف عاد مصطفى محمود من الإلحاد إلى الإيمان، لذلك قصة مهمة نسردها في مقالنا القادم إن شاء الله.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.