على طريق صغير في أحد المتنزهات، بين خضرة الأشجار والنخيل من جهة ونسيم البحر العليل وانعكاس ضوء الشمس على سطحه من جهة أخرى، اختارت أن تكتم كل الأصوات حولها، ليلمس صوت فيروز روحها دون أي تشويش.. تسْلم نفسها لتكون بين يدي الطبيعة وبأنفاس منتظمة يدخل الهواء -الذي يداعب خدها- قلبها قبل رئتيها..
هي.. فتاة في عقدها الثالث، ممشوقة القوام، بزهرتي ياقوت تسكن وجنتاها ترى في عينيها امتزاج خضرة اليابس بزرقة مائه، وتستقر فوق شفتيها شامتين؛ أحدهما تكبر الأخرى، ليكتمل بهما وجهها البدْري.
اعتادت أن تتجول بدراجتها صباح كل يوم، مُلقيةً بالدنيا وهمومها عرض الحائط وتمضي بابتسامة، تُرى من قلْبها قبل أن تظهر ملامحها على شفتاها… "هي" مؤمنة قوية، تدرك أن مصاعب الدنيا ستنتهي يوماً ما، ولن يبقى للإنسان سوى حطام نفس خلّفتها الجروح؛ لذلك هي لا تسمح لليأس بأن يستحوذ على روحها وينتشر كسرطان، لو تمكن من أحدهم لا يتركه قبل أن يصلّي الناس عليه، واخْتارت ركوب الدّراجات كمضاد حيوي تتجرعه صباحاً لمكافحة سرطان الروح ذاك..
اختارت السابعة صباحاً تحديداً… يا له من جو مناسب تماماً للتنزه! سماء صافية وشمس للتو استيقظت بينما ظل الناس نياماً. تتمنى من قلبها أن تظل عقارب الساعة عند السابعة يوماً كاملاً.. فهدوء تلك الساعة لا يُعوَّض أبداً؛ لأنه كلما وُجد الإنسيّون بمكان حلّ فيه الخراب؛ فهم ليسوا كالطبيعة تطرح جمالاً كلما نظرت إلى أي ركن منها.
لطالما سمعتْ كلمات، وشهدت عيناها نظراتٍ خلّفت وراءها تسونامي آخر. تحت مسمى العنصرية! فظهور فتاة محجبة في بلد أجنبي ليس بهذه السهولة. تكاد تكون واحدة من أهم مظاهر العنصرية التي تعانيها المسْلمات في الغربة، ولكنّ سنوات معيشتها بتلك البلد كوَّنت في نفسيتها درعاً مقاوِماً تتصدى به لمواقف العنصرية التي قد تتعرض لها بين اللحظة وتاليتها.
نور وجهها يغطى بياض حجابها السّاتر، تلف حول عنقها قطعة من الطبيعة على هيئة شال، مرتديةً كنزة صوفية قرْمزية وبنطالاً رياضياً أسود مع حذائها الأبيض. بدأتْ بأخذ جولتها الصّباحية برفقة دراجتها… لكنّ الساعة وقتها جاوزت السابعة! وهي في بالها تقول: ".. ليْت الساعة السابعة تستمر أكثر من مجرد ستين دقيقة.. ليت من حق أي شخص التلاعب بعقارب ساعة يده لصالح يومه"، ولكن الأمر كان أكثر تعقيداً.
تجاوزت الساعة السابعة… فسقطت! صخرتان صغيرتان اعترضتا طريق عجلات الدّراجة مما أفقداها السيطرة، التي بالكاد وصلت لها بسبب يدها المكسورة فاختلَّ توازنها، لتسقط أرضاً ومن فوقها دراجتها.
تسببت صلابة أرضية ذلك الممر في خدش كبير بخدها الأيمن، الذي سقطت منه بضع قطرات من الدم على مرأى ومسمع ممن في الشاطئ، ولمْ يبادر أحد بالمساعدة كأنها ورقة سقطت من إحدى الأشجار.. يا للقسوة!
بدأت يدها تؤلمها، فلم تساعدها على ركوب الدراجة، ولسوء حظها قد ابْتعدت عن منزلها بأميال عديدة ولن تستطيع المشي كل هذه المسافة ساحبةً وراءها الدراجة؛ بلْ هي بحاجة لمن يسحبها هي ودراجتها… فأجْبرها الموقف على طلب المساعدة.. تسأل من!
التفتتْ حولها لترى رفيقة الهواية لم تبدأ جولتها بعدُ، تقف مستندةً إلى دراجتها، ترطب ريقها ببضع رشفات من زجاجة "الديتوكس"، فذهبت لها ويكاد ألم يدها ينطق بدلاً عنها..
بعد ابتسامة لطيفة وإلقاء التحية، طلبت منها أن تساعدها في ركوب الدراجة بعد أن شرحت لها حادثة وقوعها التي قد رأتها مفصّلة قبل قليل ولم يهتز لها جفن. مع آخر رشفة، رفعت أحد حاجبيها غير مكترثة لأي كلمة قيلت ولا للدموع المحبوسة في عينيها، دفعتها بكتفها بقوة، وبعد أن سارت عدة خطوات التفتت لترميها بنظرةِ كُره، كانت أقسى عليها من صلابة أرضية الممر!
رفضت هي أن تفرغ وقع الصدمة والألم الذي لحق بها على هيئة دموع تجري على خدَيها المجروح أحدهما، وقررت أن تلعب دور المقاوم لتنهي هذا المشهد السخيف.
وبعد محاولتين ُحكم عليهما بالفشل، وقفت أمام دراجتها بعد أن نظرت للسّماء محاوِلةً أن تمنع دموعها عن السقوط، وقلبها يدعو الله أن يكون في عونها.. سكنتْ يدها للحظات تمكنت خلالها من ركوب الدراجة أخيراً.
وبينما هي في طريقها للمنزل، أوقفها رجل مسنٌّ مد لها يده بورقة مثنيّة فتحتها لترى نفسها، ولكن بشكل لم تعتده من قبلُ، رأت انعكاساً لها بريشة ألوان مختلفة.. رفعت رأسها لتشكره، ولكنه قد اخْتفي بمجرد أن وضع الورقة في يدها، ثم مرت بجانب تلك الفتاة العنصرية فألقتْ عليها بسمة انتصار ونظرة قوة تعجَّب لها الجميع.
على لوحة الملاحظات في غرفتها غرست دبوساً صغياًر في تلك اللوحة الجميلة وعلَّقت بجانبها ورقة بعد أن خطت: "حتى لوْ تجاوزت السّابعة… الله معكِ في كل وقت، فمَن عليكِ؟!.. 7:40 a.m… 2 يناير/كانون الثاني 2018".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.