كُلمَّا زدت في عمري ولو يوماً واحداً، اكتشف تغيير أشياء ليست بالقليلة مما كنت أنظر إليها بعين الطفولة، التي تتأثَّر بما ترى وتسمع، ومن ضمن تلك الأشياء، هي نظرتي للفشل، فلم أكن أقتنع بأن الإنسان يتعرض للفشل أحياناً؛ لكي يعود أقوى وأنجح، فكنت أظن أنَّ الحياة يجب أن تسير على وتيرة واحدة، ألا وهي النجاح، وأن مَنْ يفشل فهو الفاشل بالفطرة، ولكنَّ الحياة ليست كذلك؛ فقد رأيت ولم أسمع فقط عن قصص نجاح مُذهلة تعرَّض أصحابها للفشل أكثر من مرة، بالرغم من الضغوطات والصعوبات المجتمعية التي كانت تُراهن على فشلهم الحتمي، ولكنَّهم استطاعوا ونجحوا بأن يضربوا بنظرات المجتمع وظنه السيئ فيهم عرض الحائط، وهذا ما جعلني أؤمن بأن الإنسان ليس عليه أن يسير دائماً مع التيار المجتمعي لكي ينجح، ففي هذه الحالة، قد يُرضي الناس، ولكنَّه لن يستطيع إرضاء الأهم من الناس، ألا وهي نفسه بعد اللَّه سبحانه وتعالى.
ومع اقتراب وقت امتحانات الثانويَّه العامة يزداد الضغط على الطلبة، سواء من الأهل أو المدرسين، بطريقة مُبالَغ فيها كثيراً، غير مُبالين بأن ذلك كله يكون على حساب حالة الطالب نفسياً.
أذكر في ذلك طالبة من المعروف عنها التفوق وحُلمها بالالتحاق بإحدى كليات القمة، ولكن بسبب الضغط النفسي المعروف الذي تعرضت له للأسف تَعِبَتْ كثيراً في الفترة الأخيرة من الدراسة والامتحانات حالَ ذلك بينها وبين دخولها إحدى كليات القمة المعروفة..
فتلك حالة بسيطة من ضمن الحالات التي نراها نتيجة ما يُسمى بُعبُع الثانويَّة العامة ونظرة المجتمع إليها؛ إذ نختزل الحياة كُلِها في نتيجة الثانويَّة العامة وتجد الطالب يذاكر بلا هدف، لا يعرف سوى أنه يريد أن يدخل الطب أو الهندسة بدون رغبة داخلية تتبع ميوله وشغفه، ولكنه لا يريد من ذلك سوى الاسم والنظرة المُجتمعيَّة الباطلة.
ولا أجد في ذلك سوى أن الأسرة قد أخطأت في التربية وتكوين وعي طفلهم، فجعلته لا يبني أهدافه وطموحاته على حبه وشغفه، وإنَّما على نظرة المجتمع وقوالبه التي نحكم على أنفسنا بأن نمكث فيها منعا لنظرات اللوم والهمز واللمز المُجتمعي.. فكان الأَولى أن يضعوا بداخله النضال من أجل الهدف الذي يضعه لنفسه تبعاً لاختياراته التي يبنيها على أسس تناسبه وتُرضي شغفه؛ وعندما يصل إلى ذلك سيشعر حتماً بلذة النجاح.
فتجد الطالب في وقت التنسيق تائهاً، لا يعرف ماذا يختار، فلم يعتَد على الاختيار بنفسه. فتجده يترك المجال أيضاً لغيره ليختاروا هم، فيدخل ويقضي سنوات من عمره في مكان لا يُرضي شغفه وطموحه، فنجده هو الخاسر في ذلك؛ لأنه وضع نفسه في قالب نظرة المجتمع.
كنت جالسة ذات يوم في إحدى المحاضرات ووجدتُ زميلة لي مُنشَغِلة برسم مبنى بتصميم خيالي.. اندهشتُ كثيراً وانتبهتُ إليها أكثر إلى أن انتهت، فسألتُها بعد أن عبَّرت لها عن مدى روعة فنها واستغربت التحاقها بكلية العلوم، وخاصة قسم الكيمياء، وأنا أعرف أنها ليست من مُحبيها ولم تلتحق بكلية الفنون التطبيقية – قسم عمارة؛ لكي تُرضي ذلك الفن والشغف الذي بداخلها، فكانت إجابتها بكل تأكيد هي رغبة الأهل، تبعاً لنظرة المجتمع أن كلية العلوم كاسم أحسن بكثير من كلية الفنون التطبيقية.. فاختارت أن تدفن موهبتها وتضعها في الظلام حتى تتبع التيار المُجتمعي بكل أسفٍ وحسرة.
وقبل التحاقي بالجامعة، كانت صديقتي تَقُص لي قصة أخيها الذي يُحب كثيرا الحاسوب ومجاله، والعمل به، ورغبته في الالتحاق بكلية هندسة الحاسبات، ومجموعه آنذاك كان يعطيه فرصة الالتحاق بكلية هندسة البترول؛ فأبى والده إلا أن يُدخِلَه هندسة البترول لمكانتها في المجتمع مقارنة بهندسة الحاسبات. فتخلَّى الفتى عن حُلمه لكي يلتحق بالقالب المُجتمعي.
وأعرف أيضاً تلك التي كان كل شغفها وحُلمها أن تلتحق بكلية الصحافة والإعلام، وهذا يتطلب الالتحاق بالقسم الأدبي وليس القسم العلمي بالرغم من تفوقها في مواد القسم العلمي.
ولرفض كل مَنْ حولها ذلك فقد تخلَّت عن ذاك الحُلم وحكمت على نفسها بأن تسير مع التيار المُجتمعي الخاطئ الذي تختلف نظرته إلى القسم العلمي كثيراً عن نظرته إلى القسم الأدبي.
وإذا تحدَّثنا مع كثير من الموظفين والعاملين بداخل مؤسسات مرموقة، ولكنَّها وظيفة روتينية لا تُرضي ميولهم وأهدافهم ولولا خوفهم من المجتمع ونظراته ولومه لتركوها وبحثوا عن شغفهم وطموحهم وأحلامهم في أماكنَ أخرى؛ ولكن تفكيرهم الدائم والمستمر في نظرات المجتمع يجعل الأيام تمر في غفلة منهم، وتبقى الأحلام على الأرفف لا تجد مَنْ يتحلَّى بالشجاعة والجُرأة لنبذ كل تلك المُعتقدات المُجتمعية ونبذها.
ويبقى ذلك مسؤوليةَ الأهل بأن يربّوا أطفالهم على تحدي أن يسيروا عكس التيار الخاطئ، وأن يعلموهم معنى تلك المقولة التي أؤمن بها جداً بأنَّ مَنْ يريد أن يعيش على طريقته فعليه أن يتقدَّم مهما تكن الصعاب، فليسِر في الطريق الذي يراه صحيحاً الذي سيفيد ويستفيد من خلاله ويدع تلك القوالب المُجتمعية ولا يلتفت إلى نظرات المجتمع؛ لكنْ عليه أن ينجح في ذلك ويُثبت للمجتمع عكس ما يظن.
وأختم بتلك العبارات:
كل إنسان لديه موهبة، ولكن إن حكمت على السمكة بالفشل لعدم قدرتها على تسلق شجرة، فقد قتلت موهبة السباحة لديها.
فتّشوا عن أنفسكم بداخلكم، وليس بداخل غيركم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.