سنوات ونحن نتلقى خطاباً دينياً جامداً، حرام وحلال، حساب وعقاب، تهديد ووعيد، حالة روحية خاوية عزَّزت التطرف بنوعَيه، سواء المتشدد أو الهارب من كل ما هو ديني، التنظيمات الدينية المعتدلة في العالم العربي التي انشغلت بالصراعات السياسية لم تُقدم حلولاً، بل ساهمت في دفع الأفراد نحو التنكر لانتمائهم أو التوجه للتيارات المتشددة باحثين عن ملاذٍ لسد فراغهم الروحي، أملاً في الوصولِ إلى الجنةِ المفقودة.
جميعنا يعلم أن الصلاة فرض، وأن الدين لا يقوم إلا بها، لكننا لا نصلي وإن فعلنا ففي سياقِ أداء واجبٍ علينا الانتهاء منه، علَّمونا كيف نقف وماذا نقول وكم مرة، وتناسوا أن الصلاة صلاة قلب قبل أن تكون صلاة جسد، اختاروا الطريق الأسهل في التوجيه فأصبحنا نُصلي دون أن نُصلي وقِس على ذلك.
يؤكدون أن تفعل وتفعل لتدخل الجنة، ولكنك في الحقيقة إن فعَلت لأجل الجنة فأنت تعبد الجنة لا تعبد الله.
إذاً فالتعاليم لن تؤتي ثماراً ما دامت مُقَولَبة في صورة أوامر جامدة معتمدة على القول لا العمل والظاهر دون الباطن.
ضِمن مشروعه الفكري، عقد الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن مقارنةً بين الفقه الائتماري والفقه الائتماني في الإسلام، وأقام النظر في قدرة كليهما على الإصلاح ونقل الدين من المعرفة المجردة إلى الإيمانِ فالإحسان.
فما الفرق بين الأمر والأمانة في الفقه الإسلامي؟ وما مدى قدرتهما على التأثير؟
الفقه الائتماري هو فقه الأوامر، يكتفي الفقيه بالأمر وعرض الموقف الشرعي والديني من حيث كَونه حلالاً أو حراماً أو جائزاً أو واجباً، معتمداً على الآياتِ القرآنية والأحاديث النبوية والتراث الفقهي في الرد على المسألة المعروضةِ عليه، متوعداً مَن يخالفها بأشدّ العذاب يوم القيامة، وينتهي دوره.
بينما الفقه الائتماني فقه أمانات، يُعيد الفقيهُ السائلَ إلى دائرة الحياء من الله بعد أن يُرجعه إلى الخشيةِ منه واستشعارِ مراقبته له، باحثاً في الأسبابِ والعوامل النفسية والاجتماعية التي أدت إلى هذا الفعلِ أو السلوك، ثم يعالجها بما تقتضيه وبما يناسب كل حالة، بالتالي يتعامل الإنسان بفعلهِ وسلوكهِ وفقَ مبدأ الاقتناع والحياء من الله، وليس لمجرد الأمر الديني.
فإذا أخذنا غض البصر كمثال؛ سيقوم الفقيه الائتماري بعرض الآيات القرآنية التي أمرت بغض البصر "وقُل للمؤمنينَ يَغُضوا من أبصارِهِم.."، "وقُل للمؤمناتِ يَغضُضنَ من أبصارهنَّ.."، "ولا تَمُدَّنَّ عينيكَ إلى ما متَّعنا به أزواجاً منهم..". ثم الأحاديث الشريفة "يا عليّ، لا تُتبِع النظرةَ النظرة، فإن لك الأولى وليس لك الأخرى" رواه أبو داوود، إلى آخر النصوص الواردة في هذا الباب.
تبقى النصوص أقوالاً مجردة يصعُب تنفيذها في الأغلب الأعم، حتى وإن أُخذ بها فسيكون لأن الله قال كذا، تنفيذاً لأمرٍ قد يبدو غير مفهوم مغزاه ولا الغرض منه؛ قد يُنفَّذ مرة ويُترَك مرات، فليس كلُّ من أُمر بغض البصر يغُضه ولا كل من أُمر بالصلاةِ يُصلي، ومن يُصلي قد يصلي بجسده دون روحه.. وهكذا.
أما الفقيه الائتماني فيعود إلى أن النظر عطاء إلهيّ يستوجب حفظه والحياء من اللهِ فيه، وأن الله شاهد رقيب بصير مُطَّلِع، فلا أقل من أن يحفظ الإنسان شهادة الله عليه حياءً ورهبةً وإذعاناً لأمرِه، واضعاً المتلقي في مرحلةٍ أولى تقتضي التصوّر العقلي بأن الله ينظر إليه؛ لينقله إلى مرحلة ثانية وهي التحقق الروحي الوجداني بهذا النظر، بالتالي يكون غضّ بصره خالصاً لوجهه تعالى وليس لتنفيذ الأمر فقط.
الانتقال من القول إلى العمل وإغفال المظهر لتقويةِ الجوهر وخلق صلة روحية بين الإنسانِ وخالِقه تتَّسِم بالديمومةِ والخشيةِ والحياء، وتدفع للعمل لأجل الله وحده، لا من أجل الأمر أو الخوف من العذاب أو انتظار الجزاء وإنما لله، بدافعٍ من الإيمان الداخلي والإدراك القلبي لحقيقة الصلة، هو ما يميز فقه الأمانة عن فقه الأمر، ويدفعنا للتساؤل عن جدوى الخطاب الديني الجامد وتَبِعات الاستمرار فيه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.