أورد المؤرخ (ديورانت) حواراً مُوجِباً للعبرة حول السياسة، دار بين (كنفوشيوس) وأحد أتباعه ويدعى (تسي كوغ)، الذي كان سأل أستاذه عن السلطة، فأجابه (كنفوشيوس) قائلاً: على السياسة أن تؤمِّن أشياء ثلاثة:
– لقمة العيش الكافية لكل فرد.
– القدر الكافي من التجهيزات العسكرية.
– القدر الكافي من ثقة الناس بحكَّامهم.
سأل (تسي كوغ): وإذا كان لا بد من الاستغناء عن أحد هذه الأشياء الثلاثة فبأيِّها نضحِّي؟ أجاب الفيلسوف: بالتجهيزات العسكرية.
سأل (تسي كونغ): وإذا كان لا بد أن نستغني عن أحد الشيئين الباقيين فبأيهما نضحِّي؟
أجاب الفيلسوف: في هذه الحالة نستغني عن القوت؛ لأن الموت كان دائماً هو مصير الناس، ولكنهم إذا فقدوا الثقة لم يبق أيُّ أساس للدولة.
والحب في الإسلام -كما فهمه مالكوم إكس- يعد مفهوماً شاملاً داخل مؤسسة الزواج يقوم على الثقة أيضاً، بينما هو في المفهوم الغربي شبق وسعار.
الحب بالمفهوم الإسلامي نزعة وسلوك وموقف، وأفكار وميل، ومودة ورحمة، وكل هذه الأشياء التي تتعدى الماديات وتعتبر ركائز للجمال الحقيقي، الجمال الأبدي.
إن الزواج -كما يقول إسماعيل الفاروقي- ينشئ شبكة واسعة من العلاقات الإنسانية يدور حولها جزء كبير من الفعل الأخلاقى.
وعائل الأسرة هو المسؤول الأول تجاه أفراد أسرته، عن واجبات الإنجاب والحب والتراحم والشورى والتوجيه والتربية والتعاون والمودة.
وليس الزواج كما يعرفه (ماركس) بأنه "علاقة اقتصادية مفعمة بالحب". وكذا السياسة تنشئ علاقات بين الدول تقوم على المصالح المشتركة، ونادراً ما تُبنى على المبادئ، وهو ما حذَّر منه (غاندي) عندما تحدَّث عن حضارة العصر التي ارتكبت خطايا جعلت: "السياسة بلا مبادئ، والتجارة بلا أخلاق، والثروة بلا عمل، والتعليم بلا تربية، والعلم بلا ضمير، والعبادة بلا تضحية".
ومما يؤسف له أن العلاقات الاجتماعية في عصرنا الحالي قد أصابها بعض التبدل، حيث أضحت تقوم على نحو متصاعد على تبادل المنافع، وليس على الحب والتقدير والوفاء والتناغم الخلقي والروحي.
إن الحب في الزواج يتسم بنوع من الاستمرار، وهو بعكس الحاصل في السياسة، التي طابعها التقلُّب مع المصلحة، فصديق اليوم قد يكون عدو الغد، وعدو اليوم قد يكون صديق الغد، والحب الحقيقي هو أن يقبل الواحد الآخر، ويعرف أن محاسنه مرتبطة تمام الارتباط بمثالبه.
وهي تجربة ساقها لنا (الدكتور عبدالوهاب المسيري) من حياته الخاصة، في إمكانية (تعدد الزيجات من الزوجة نفسها)، فالحياة تتغير والإنسان يتغير، وبمرور الزمن تتغير وظائفنا وأماكن إقامتنا وحالتنا الصحية والنفسية، ولا بد أن يدرك الزوجان ذلك، وأن يدركا أن علاقتهما تحتاج إلى إعادة تفاوض من آنٍ لآخر بخصوص العقد الصامت بينهما، وأنه لا بد من إعادة صياغته بكل بنوده وأولوياته، والذي يشكل أساس أي علاقة زوجية.
إن تنمية العلاقات الزوجية (الحب) – كالسياسة – هي دائماً فن الممكن. والذي يعني في السياسة فن إدارة الشأن العام، أي فن الموازنة بين المصالح والمفاسد، وهي أيضاً فن تكثير الأصدقاء وتقليل الأعداء، وهي كذلك في العلاقة الزوجية فن إدارة الأسرة، ومحاولة تقليل السلبيات (المفاسد)، وتعزيز الإيجابيات (المصالح)، وهذا ما يجب أن يدركه الزوجان، وأن المزايا عند أحدهما ليست منفصلة عن عيوبه، فالعيوب مرتبطة تمام الارتباط بالمزايا، وأن النضج الحقيقي أن يحب الإنسان الآخر بمجموعه، بكل مزاياه وعيوبه، وألا يحاول أن يحكم عليه من خلال صور نمطية مسبقة، وهذا لا يعني أن يتقبل المرء الآخر دون محاولة الإصلاح والتقويم، وهذا هو فن الممكن في العلاقات الزوجية.
كما نلاحظ أيضاً أن مجال (السياسة) مباين لمجال (الحب) في جوانب وموافق له في جوانب أخرى، فالسياسة مركز للتوازنات، والتحالفات والتنازلات والمناورات، على حين أن الحب هو مجال للتوازنات والتنازلات أيضاً، مضافاً إلى ذلك الاحترام والتقدير والرعاية والمسؤولية، وليس فيه مكان للمناورات والتحالفات التي تعتبر من صميم السياسة.
وفي السياسة كثيراً ما نجد أنفسنا في وضعية نفاضل فيها بين السيئ والأسوأ.
أما في إطار العلاقات فنلاحظ أن العواطف والأحاسيس تتسم بالفوضى وبالغموض والقليل من العقلانية والمنطقية، فللقلب حين يحب ويبغض ويفرح ويحزن أسبابه التي لا تحتاج إلى الموافقة عليها من عقل أو خبرة أو تجربة.
والتعليم لا يستطيع أن يكوِّن مشاعر الحب والحنين؛ لأن مثل هذه المشاعر تتكوَّن في سياق التجربة الإنسانية برمتها، فالحب حصيلة أربعة مكونات هي: الرعاية، والشعور بالمسؤولية، والاحترام، والمعرفة.
وهكذا نصل إلى استنتاج جد غريب في السيكولوجية السياسية كما هو في الحب (ذكرها المفكر مالك بن نبي)، وهو أن السياسة العاطفية لا تجد مسوغاتها في كسبها ولكن في خسارتها: فكلما تقطعت أنفاس الثور، ونزف دمه في حلبة الصراع، ازداد هجومه على المنديل الأحمر.
ولذا تختلف رؤية المحب من شخص لآخر سياسياً أو زوجاً وهو ما أوضحه (توماس جيفرسون) معلم الثورة الأميركية، وثالث رئيس للولايات المتحدة حين قال لـ(آدمز):" إن كلاً منا يحب الشعب، ويعمل على إسعاده، ولكنك تحبه كما لو كان (رضيعاً)، تخشى أن تتركه بلا حاضنة، في حين أني أحبه كما لو كان (راشداً)، يستطيع أن يتولى أمر نفسه بنفسه حراً".
والسياسة التي لا تحدِّث الشعب عن واجباته، وتكتفي بأن تضرب له على نغمة حقوقه، ليست سياسة، وإنما هي (خرافة). وأن السياسة الحقيقية التي تغير وجه الأشياء ووضع الشعب، ليست في المطالبة بحق، ولكنها في القيام بالواجب. وهنا تتفق العلاقات الجيدة (الحب) مع السياسة الجيدة في كونهما يقومان على الواجب قبل قيامهما على الحق، وأن دوام العلاقة هنا أو هناك تقوم على رفع شعار (البداية من عندي).
إن رسالة الحب غير المشروط التي تختلف تماماً عن رسالة السياسة هي قول الحبيب لمن يحب: أحبك لأنك زوجي، ابني،….. أحبك مهما فعلت.. أحبك مهما كنت.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.