المجتمعات التائهة، التي ضاعت منها بوصلة معرفة سبيل النجاة، هي مجتمعات عنيفة ومتعصبة لرأيها ومنحازة جداً لمَا تظنه ماء وهو لا يعدو كونه سراباً.
وهي عادةً لا تصل لمرحلة التيه إلا بعد أن تكون قد قضت على كل العارفين بمسالك النجاة، وأسكتت كل صوت يعارضها في أوهام النجاة، ولكن ما يشد الانتباه أن هذه المجتمعات (التائهة) تكون شديدة التمسك بقيادات تخرج منها في مرحلة التيه ومتعلقة بها لدرجة القداسة، وعلى استعداد لأن تدوس كل صوت لا يذوب عشقاً في هذه القيادات، فضلاً عن كونه يعارضها، غير أن ولاء المجتمعات لهذه القيادات بقدر ما هو أحمق وجارف إلا أنه سرعان ما يخفت ويتحول إلى حالة إحباط وتبرؤ منها.
ولكن من المؤسف حقاً أن هؤلاء يسرقون وقت المجتمعات، ويؤخرون زمن خلاصها حتى وإن كانت هذه المجتمعات تتخلى عنهم بعدما تكتشف زيفهم، ولكن للأسف بعد فوات الأوان.
وهكذا تضيع قضية المجتمعات التائهة الأساسية والتي هي (الخروج من التيه)، وتقضي هذه المجتمعات سنوات وأحياناً عقوداً بل وقروناً وهي تتجادل وتتصارع وتفتك ببعض بسبب قضايا فرعية.
وخلال رحلة التيه الطويلة قد يظهر في هذه المجتمعات من تتوافر فيه القدرة على إخراجها من حالتها المأساوية، ولكن هؤلاء إن أعلنوا عن أنفسهم فمصيرهم الدهس والسحل بأقدام الجموع المتشنجة التي يحركها المستفيدون -آنياً- من حالة التيه.
وبعض هؤلاء قد يلجأ للعيش في عزلة عن المجتمع الذي تحول إلى قطيع، ويستقطب مَن يثق في وعيه فقط ليرشده لطريق الخلاص، وخلاص المجتمع من حالته هذه يكون رهناً بسلامة هؤلاء وانتشار وعيهم فيه.
ولكن الخلاص لن يأتي بسرعة فكلما طال زمن التيه طالت رحلة الخلاص، وأول خطوة في الطريق نحو الخروج من التيه هي طرح السؤال التالي: كيف تهنا؟
إن هذا السؤال رغم بساطته وقلة كلماته فإنه يمثل خطوة مهمة جداً في طريق الخلاص، والمستفيدون من التيه لن يسمحوا بطرحه وإن طرح فسوف يشوشون ويتهمون من طرحه بالهرطقة وتضليل المجتمع -الضال أصلاً- وجديرٌ بالذكر أن هذه المرحلة تتميز بانقلاب المفاهيم فالجهل يصبح وعياً، والتفكير يتحول لرذيلة، والتعلم يكون عاراً، ويكون صوت الجهل عالياً وأنصاره يكونون متحمسين لنصرته، وجاهزين للفتك بكل من يسيء إليه.
ولكن رغم سطوة هؤلاء فإن هذا السؤال سوف يكون مثل قطرات الماء الصغيرة والمستمرة، فهي مع الوقت سوف تحفر أعتى الصخور وتفتتها، فصخرة الجهل المركب تكون قادرة على تحمل ضربات المتهورين الذين يريدون خلاصاً سريعاً، غير أن فؤوسهم وقواهم سرعان ما تعجز عن تحطيم صخرة الجهل، ويتحولون إلى مثال سيئ وتجربة فاشلة ومحبطة للكثيرين، وأيضاً مفرحة لمن لا يريد لأحد أن يغير واقع المجتمعات البائسة.
ورغم أن الزمن قد يكون بعيداً بين طرح السؤال الأول (سؤال طريق الخلاص) والزمن الذي تصبح المجتمعات فيه قادرة على الإجابة عليه ومتأكدة من صحة إجابتها، فإنه على هذه المجتمعات وهي تخطو أولى خطواتها في الاتجاه الصحيح نحو الخروج من التيه أن تتذكر هؤلاء وترفع لهم القبعة احتراماً، فهمساتُهم في زمن الخوف وإن كانت خافتة، إلا أنها تستحق الاحترام أكثر من الأصوات العالية في أوقات الأمان.
المجتمعات غبية بطبعها وعنيدة، وهي لا تتعلم بالطرق السهلة بل تتعلم بالطرق الصعبة، وإن كانت تتفاوت في ذلك، إلا أنها تقضي أوقاتاً طويلة في نزاعات حول قضايا وهمية، وتنفق فيها الجهد والوقت، وهذا ما يفسر لنا تفاوت التقدم والتحضر التي تعيشه المجتمعات الإنسانية في زمننا الحالي، فالبرغم من أننا في وقت سرعة انتقال المعلومة وسهولة تلقّيهاـ إلا أنه توجد مجتمعات كثيرة ما زالت عاجزة عن ملاحقة غيرها في تقدمها، بل وتظل عالة على غيرها، وجهلها لا يشكل خطراً عليها فقط، بل يشكل خطراً حتى على غيرها من المجتمعات، ويتوجب على المجتمعات الإنسانية المتقدمة مساعدة غيرها التي لا تزال رهينة التيه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.