منذ أن قابلت السيدة يسار وتحدثت إليها، وأنا أرغب بشدة في أن أتحدث عنها، ولكني كنت أخاف، نعم أخاف، فهناك من يرى أن من يتحدث عن الإلحاد وتجارب تزعزع الإيمان ينشر الإلحاد والفساد! وأنه علينا أن نتجاهل الأمر حتى يموت وحده، وأن من سبقونا فعلوا ذلك، ولهذا لم تصلنا تلك الأفكار؛ لأنها ماتت عند صاحبها.
ولكنب تذكرت مقولة للعز بن عبد السلام (من نزل بأرض تنتشر فيها الزنا فحدث الناس عن حرمة الربا فقد خان)، وأنا لا أخون، فكيف لا أتحدث عن الخطر الذي يداهمنا بعد السماوات المفتوحة، وشبكات التواصل الاجتماعي؟ فأصبحت كل الأفكار مطروحة رغم أنف الجميع.
لا أحد يعلم ما أصابك، لا أحد يعلم كيف هي معركتك الخاصة مع الحياة؟ ما الذ ي زعزع إيمانك، وقتل عفويتك؟ كم كافحت، وكم خسرت؟ لا أحد يعلم حقاً من أنت.
هكذا قالت لي يسار وهي تبكى، هذه الكلمات سطرها جبران خليل جبران منذ سنوات طويلة؛ ليعبر بها عن ألمه، وكأنه كان يخط السطور الأساسية بحياتها، بل بحياة مئات من الشباب يكابدون الألم والأمل المحبة والكراهية، الشك والإيمان، صراع لا يحسم إلا ليبدأ صراع جديد، لا تعرف أين ستهرب بأحمال قلبك وشتات نفسك وشرود عقلك؛ لتصل إلى يقين لا تزعزعه نوائب الدهر أو تقلبات الزمن.
كنت أخشى حتى من اسمها وكأنه تهمة، ولكن يسار قالت لي: أتدرين أن من معاني كلمة الخليل المائل، ولكن كيف يلقب سيدنا إبراهيم بالخليل؟ الإجابة أن مجتمع سيدنا إبراهيم كان ينتشر به الشرك والفساد، فمال عما هو مائل، فكان في قمة الاعتدال، فعندما تكون على اليسار من مجتمع يسير فى الاتجاه المعاكس، لا تكون أبداً في الاتجاه الخاطئ.
قالت يسار لي: لمَ كل تلك الثرثرة أنا لا أخجل من قصتي، فأنا من تحملت من تلك الحياة ما لا يحتمل فأصبحت لا أعرف إن كنت أنا من تكابد الألم أم أنه هو الذي يكابدني، لم يحتمل عقلي، أصبحت أعيش مع عالم كبير داخل نفسي، أصبح الواقع يتداخل مع الأحلام، يراني الناس أحياناً أتحدث إلى نفسي، وأخيراً تعرضت لهزة عنيفة شعرت بعدها أن رأسي كان مدينة ملاهٍ تضج بالأصوات والأنوار والأشخاص وفصلت عنها الكهرباء فجأة.
علي هو الذي استعادني من حيث ذهبت، ورد لي عقلي، فهو صاحب مكتب المراجعة الذي قام بمراجعة الشركة التي أعمل بها، لحصر السرقات وتحديد مسؤولية كل موظف، وكشف المتورطين سواء كان بالتواطؤ أو بالإهمال، ولكن هذا لم يكن لقاءنا الأول، فنحن كنا جيران قرية، ورفاق سنوات الصبا والمحبة.
تزوجنى علي ببطاقة كتب بها أنه مسلم، في البداية كنت أظنه غير متدين، ولكني كنت أقول إنه لا يصلي، ولكن حكمه كما قال الشيخ الغزالي أن آخذه معي عندما أصلي، ولكنه لم يأتِ!، لأن الأمر تطور معه وأصبح ملحداً أو لا دينياً، كما يحب أن يقول.
الناس عادة تتصور أن عليك أن تختار الدنيا أو الآخرة، ولا يحاول أحد أن ينظر للأمور من منظور ثالث، فأنا أحب علي ولا يمكنني تركه، وأحب الله ولا يمكنني أن أغضبه، فكان قراري أنني سأترك بيت زوجي وسأتعامل معه بوصفه أجنبياً عني، ولكني لن أرفع عليه دعوى تفريق، وسأسعى لأن أرد عليه دينه كما رد علي عقلي، ولأنني وحدي لم يكن يمكنني مواجهة إلحاده فقد أخذت دورة تدريبية بعنوان كيف تواجه ملحداً؟
لا أعرف لماذا لم أكن أصدق يسار أنها مؤمنة، فقالت لي: زوجي كان يقول لي أنت مثلي ومثل الشيطان، خلقنا من نار فأصبحنا متميزين متمردين، وحتى المركز الذي أصبحت أحاضر فيه كان في إعلاناته يصفني بأنني عائدة من الإلحاد، ولكن للحقيقة أنا لم أتمرد على الله، ولكني تمردت على المجتمع بمتناقضاته وإحباطاته، فأنا من تعرض لألم فوق احتماله فوقع في المعصية من شدة الضغوط، نعم فكرت كيف أتعرض لكل هذا الألم وعندما أسقط في المعصية أعاقب بأن أرسل للجحيم، فلولا كل هذا الألم ما سقطت في المعصية، وغيري لم يتعرض لأي شيء، وبالتالي لم تراوده تلك الأفكار التي تراودني، على أية حال يمكنك أن تقول: أنا العبد العاصي المصر على النجاة.
سأحكي لكم من البداية، فأنا مؤمنة؛ لأن الله شاهدي الوحيد على كل ما جرى وعلى ما سأحكي، فكلما اشتد الألم يأتيني صوت بداخلي يقول: تركك الله، فأهتف لقلبي وعقلي (ما ودعك ربك وما قلى).
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.