في ليلةٍ من ليالي كانون؛ حيثُ يستوطنُ البردُ الجسد، ويغفو المتعبون تحت وطأة الليل، ويجتمعُ المحبون في سويعات السكون، تجلسُ أنت وحيداً، أسيراً لذكرياتِ سنين ولّت.
الفقد الذي كابدته يوماً، تمضي السنون وما زالت ندبته عالقة فيك، سهمُ الخذلان الذي أصابكَ في وضحِ الظهيرة حين كان الرامي أقرب الناسِ إليك، الفرصة التي أوقدت شُعلةَ الأملِ بروحك لحظةً، لكنها انطفأت قبل أن تتشبع منها.
تلك الجميلةُ التي أحببتها يوماً وظننت أنَّ بعد الحبِ وصلاً، لكنها جاءت فأخبرتك أن بعض الظنِ إثم! الحلم الذي امتطيته فرأيت نفسك فوق السحابِ تنظر لغدٍ تلتئمُ فيه الجراح وتعود للروح نضرتها، لكنك ترى الآن جرحاً يأبى إلا أن يتسع شيئاً فشيئاً حتى يلتهم البقية الباقية فيك.
كُلها سطور في حكاياتٍ لا تغيب عن ناظريك، فإذا أقبل الليل رأيتها طيوراً تُحلق فوق رأسك، أو سحابةً لا تبرحك.
أنت يا صديقي مُعذبٌ يرجو الخلاص، أسيرٌ يهفو لحريته، ظمآن تبحثُ روحه عما يرويها، مكسورٌ يُقتِشُ عما يجبرُ كسرَه، مُبعثَرٌ أنت ودمك مُوزَعٌ بين النكباتِ فلا تعلمُ عند أيٍ منها تطلب ثأرك، مبعثَرٌ يُمنّي النفس بشيء يلملم بعثرته ويجمعُ شتات قلبه وروحه.
أشهدُ -يا صديقي- كم عانيت وقاسيت في رحلتك، أدرك -والله يشهد- حجمَ الثقب الذي أصاب جدار روحك، لكنها الدنيا يا رفيق البؤس، لا نعرف فيه ارتواءً ولا نرى للراحةِ فيها كمالاً.
لكنني أراك أنت، أراك باحثاً عن الترياق بعيداً عنك، تسلكُ كل طريقٍ طالباً العون دون أن تغير وجهتك، تطلب من يُقيل عثرتك ولا تنظر في أمرِ طريقك، أهو لك؟ أم أنك الآن في موضعٍ ليس لك فيه شيء؟!
خلاصك يأتي من عندك أولاً يا صديقي، فلا حاجة لك بما يُرهقك، لا حاجة لما يزيد جرحك اتساعاً، لا حاجة لنا لكل ما تذهب النفس في سبيله هباءً.
يا صديقي أنت لست نصفاً يبحثُ عن نصف آخر ليكمله، لست أحجيةً تجهلُ حلها فتنتظر من يأتي ليفك شفرتها، بل أنت شخصٌ كاملٌ تحمِلُ أسباب البقاء والمضي، تحمِل أسباب السيرِ حاملاً كل همك وجرحك فتنثرها على جانبي طريقك لعلها تزهر يوماً.
لا أعدك أن النسيان أمرٌ سهلٌ، وأننا سنصبح في الغد كأن لم يكن بالأمسِ شيئاً، لكنها قواربُ النسيان نركبها، فإن لم نصل للشاطئ الآخر فأضعفُ الإيمان أننا سنتجاوزُ شاطئ الماضي وفيضان الذكريات.
قوارب النسيان لن تستجدي قدومك، لن تذرف دموع الأسى عليك، لكنها ستترك -إن أنت تمنعت- متدثراً برداء اليأس والخوف، ستحملُ من اختاروها اقتناعاً وترحلُ بهم في رحلةٍ لن يغرق فيها إلا مَن بقي على الشاطئ فلم يركب.
فكأنها تخبرك بعد أن ترحل أنك قد اخترت الشاطئ وظننت فيه النجاة، كما اختار ابنُ نوحٍ الجبل وظنَّ أن فيه المأوى فلا ابن نوحٍ قد نجا ولا أنت ستفعل.
فانفض غبار الماضي عنك، احمل منه الدرس والعظة وما تبقى من رماد الحلم علَّ ناراً توقَدُ من تحته، اقطع صلتك بكل ما يؤذيك وكل ما ينثر الملح في جراحك، امضِ في رحلة النسيان يا صديقي، فإن لم تنَل نعيم مَن نسي فلا تبقى في جحيم من لا يُفارِقُ أطلاله.
هو الماضي لا يعود، لكنه الأمل يتجدد، وما زالت الحياةُ باقيةً ما دامت الروح في الجسد، ولا تجف بئر المرء إلا بموتٍ يسلب روحه، فأنت الآن بين الأحياء حُر ينقصه أن يزيل تلك الغمامة التي تحجب الضوء عنه، انظر حولك واختر من الرفاق من يشد عضدك، ومن الأحلام ما تجد لبلوغها سُلماً، ومن اليقين دليلاً يرشدك إذا ما ضللت، ومن الإيمان سلاحاً يقيك شر نوائب الدهر، ومن حسن الظن بربك دافعاً للمُضي مهما قست الحياة.
وتذكر يا صديقي أنها دنيا، ليست مستقراً لأحد، ولا تدوم فيه السعادةُ لأحد، إنما هي دارٌ نُكابد فيها أكثر مما نستريح ونشقى فيها أكثر مما نسعد، ولو أنَّ الدنيا مقر لسعادةٍ لا تنتهي لما كان للجنةِ معنى،
فقُم يا صديقي وابتسم فما أصابك لم يكن يوماً ليُخطئك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.