رسالة من أرض الغُربة

الغربة كربة، وأرض من جمر، وحرقة قلب، وألم يكبر، ومعاناة تستفحل، وتجربة قاسية مريرة، ليست بهيِنة ولا بِليّنة على المغترب الذي فارق الأهل والخلان، ولنا أن نتخيل لحظة الفراق والاستعداد للرحيل إنها تشبه إلى حد كبير فراق الروح للجسد!

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/15 الساعة 04:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/15 الساعة 04:34 بتوقيت غرينتش

الغربة كربة، وأرض من جمر، وحرقة قلب، وألم يكبر، ومعاناة تستفحل، وتجربة قاسية مريرة، ليست بهيِنة ولا بِليّنة على المغترب الذي فارق الأهل والخلان، ولنا أن نتخيل لحظة الفراق والاستعداد للرحيل إنها تشبه إلى حد كبير فراق الروح للجسد!

"المسافر" ينخلع قلبه من بين أحضان الأب والأم والزوجة والأطفال، رغماً عن أنفه، بعد أن أصبح الفقر كُفراً، ولو نظرنا للمسافر بعين الرحمة وقرأنا بريق الدموع في عينيه سنجد فيهما حيرة وشتاتاً ومشاعر حزن دفين، لجداول دموع حبسها عن أهله، وعجز الفلاسفة عن وصفها أو فك رموز شيفراتها أو الوصول لقاعها.

يكفي أن "المسافر" في آخر ليلة له قبل رحيله يصاب بدوار يغشاه موج من فوقه موج، وتتكتل على رأسه وجسده علامات أمراض الدنيا، ولكن بلا حمى، وأمام مأساته ومعاناته فشل أطباء العالم في علاج اكتئابه وألمه المعنوي.

أما لحظة فراقه لأهله فقد عجز فطاحل الأدباء والشعراء وأنبغ الكُتاب عن وصف حجم الهم والغم والكرب على تقاسيم وجهه، جميع علامات اليأس والخوف تتجسد فيه لحظة الوداع المرير، والله الذي لا إله إلا هو إن مفاتيح كنوز العالم بأسره لا تستطيع أن تمسح أحزان قلبه المُنكسِر في اللحظة التي يشعر فيها "المسافر" باليُتم، ويكفيه من غربته التي اشتعل منها الرأس شيباً، أن الأيام والساعات فيها ثقيلة مريرة، ويبقى ما خفي كان أكبر وأجل وأعظم.

أما أول ليلة ينزلها في الغربة فهي أشبه إلى حد ما بأول ليلة يبيتها في قبره، مخالب تنهش في جسده بلا رحمة ولا تدعه يهنأ، وصفير ريح في العقل لا يهدأ، وأشلاء جسد محطم يمشي على الأرض فوق الصعب يحمل الأشواك على ظهره، وبه من الألم ما تئن له الجِمَال وتخر له الجبال.

أما وقت العمل فما أثقله على "الغريب" فهو بطيء كخطوات عجوز عاجز هدّه طول المسير على طريق من الأشواك، وأما وقت السكِينة يشرد فيه الذهن، بعد أن أسند "الغريب" ظهره على حائط الغربة الذي لم يرَ فيه الراحة ولو للحظة واحدة.

ضريبة الغربة أنها تأكل وتشرب من دم "المغترب"، وتسرق مرحلة الشباب أجمل أيام العمر تمر كالبرق الخاطف، مقابل حفنة من الدولارات، منتهى القسوة التي يمكن أن يتحملها "المسافر" لأجل توفير لقمة العيش لأطفاله "اليتامى" وهو على قيد الحياة، بعد أن تغرب عنهم، ولا يتمنى لهم غُربة كي لا يعيشوا تجربته، ولا يعانوا معاناته، كل هذه المرارة تذروها الرياح بمجرد عودة "الغريب" لبيته، ورؤيته لأهله ينسى همومه، وجبال أحزانه ليرى الابتسامة على شفاة أطفاله.

رسالتنا للأهل نكتبها بمداد الدموع على صفحات من أعمارنا، أخبارنا إليكم تحملها صورنا، وجوهنا تضحك لأجلكم، وقلوبنا تبكي وتتمزق لفراقكم، ولا نملك من شريط الذاكرة إلا ذكراكم العاطرة التي نعيش عليها، ونتنفس بها حتى تغرب الشمس، ثم نستلق على الأسِرّه، ومنا من يفترش الأرض، ومنا من يلتحف بالسماء لينام، داعين الله أن يَمُنّ علينا ونراكم في المنام، ولكن غالباً ما يداهم ليلنا هواجس مفزعة تطاردنا من ليلة لأخرى، وكأن القدر كتب علينا أن نعذب في كل يومِ مرتين.

الغربة ألم وعذاب، وأرق واكتئاب، وحزن وبكاء، وتعب وشقاء، وكأس من حنظل يتجرعه المغترب ولا يكاد يسيغه، بل هي نصف موت أو أكثر من ذلك، والشمس لا تغلي إلا فوق رأس "الغريب"، وحسبه من غربته جرعة ماء تسد جوعه ورمقه، باختصار هي حالة لا يعرفها إلا مَن عاشها وذاقها، ويكفي من مواجعها أنك "غريب"، لا تملك في يدك ثمن تذكرة شحنك لبلدك، ولا ثمن كفنك حين تموت!
طوبى لكم يا معشر الغرباء… ودُمتم سالمين.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد