"هل يحتاج أي شخص إلى حفار؟ هذا حفار، رجل قوي البنية سيقوم بالحفر، لنبدأ المزاد!" كان هذا المقطع مقدمة للتقرير المصور الصادم الذي بثته قناة "سي إن إن" الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بعنوان "مزادات العبيد".
ويوثق التقرير وجود مزادات سرية في ليبيا لبيع المهاجرين غير النظاميين، الذين يأتون – وأغلبهم من أصول إفريقية- للعمل في الزراعة والحفر وغيرها من الأعمال الشاقة، بمبالغ قد تصل إلى ثمانمائة دولار للشخص الواحد.
وقد أدى بث هذا التقرير إلى إثارة عاصفة دولية هائلة، وأعاد قضية الهجرة غير النظامية إلى بؤرة الاهتمام الشعبي والرسمي مجدداً. كما أعاد وبقوة الدور الرقابي للصحافة الاستقصائية وأهميتها في صناعة القرارات في المجتمع السياسي المعاصر، وفي التأثير على صياغة أولويات السياسات العامة من متخذي القرار على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.
فقد أعلنت السلطات الليبية -فور نشر التقرير- أنها فتحت تحقيقاً رسمياً لمعاقبة المتورطين، فيما تسابقت الحكومات والمنظمات الدولية في الإعلان عن ردود فعلها تجاه ما جاء في التقرير. وقد قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إنه يمكن محاكمة المسؤولين عن تلك الممارسات بتهمة "ارتكاب جرائم ضد الإنسانية".
وأعلنت المحكمة الجنائية الدولية عزمها فتح ملفات هذه القضية والتحقيق فيها، وأعربت منظمة الهجرة الدولية عن تعاونها التام مع التحقيقات الرسمية في ليبيا. كما اقترحت مفوضية الاتحاد الإفريقي إيفاد مبعوث خاص إلى ليبيا لبحث إجراءات تحسين حياة المهاجرين في ليبيا وإعادة المتضررين منهم إلى بلدانهم.
قضية الهجرة غير النظامية وموت المهاجرين أثناء محاولاتهم التسلل إلى الأراضي الأوروبية عبر الصحراء أو مياه البحر الأبيض المتوسط، صارت من القصص الروتينية التي لا تثير اهتمام الحكومات أو الرأي العام إلا عند وقوع أحداث كبرى تلفت الأنظار إليها بين الفينة والأخرى.
فمثلاً يعد تقرير "سي إن إن" الأخير، وصورة جثة الطفل السوري الملقاة على شاطئ البحر التي نشرت في 2016، وموت ما يقارب 850 مهاجراً غرقاً في مياه الأبيض المتوسط في أبريل/نيسان 2015؛ من الأحداث الهامة، باعتبار الحادثة الأخيرة توصف بأنها أكبر واقعة موت جماعي تحدث في تاريخ البحر المتوسط.
وقد حركت هذه الأحداث مشاعر الرأي العام، وأجبرت الحكومات على اتخاذ مواقف واضحة بشأنها.
مقبرة البحر الأبيض
رحلة الأمل والموت في آن واحد تنطلق عبر البحر نحو القارة الأوروبية، فتتزاحم الأجساد في قوارب هشة صُمم الكثير منها لصيد الأسماك، لكنها صارت تستعمل لاصطياد البشر، والاتجار بهم بواسطة مافيا التهريب الدولية!
كثير من المهاجرين يعرفون مسبقاً أن الموت يسكن هذه القوارب، ولكنهم لا يأبهون لذلك بعد أن لم يجدوا من حكامهم سوى الظلم والقمع والاستئثار بالسلطة والثروات.
إنهم يُبحرون بشباك مليئة بالأحلام بعيداً عن أوطانهم التي ضنت عليهم حتى بالأكفان، فصار ملح البحر ودموعهم هي الكفن والسكن الأبدي!
وكل صباح يبدو البحر الأبيض المتوسط حزيناً وكئيباً ورمادياً، وكأنه مقبرة مائية كبيرة بعد ثورة غليانه المتكررة، وعلى طول جسده الممتد ترقد عشرات الجثث!
يسارع قادة الاتحاد الأوروبي -في مشاهد ماراثونية واجتماعات طارئة تلتقطها وكالات الأنباء العالمية فتبثها- لاحتواء الأزمة، تارة بإرسال سفن الإنقاذ لانتشال المهاجرين من قوارب الموت، وتارة أخرى بسحب الجثث إلى مرقدها الأبدي.
ولا ريب أن القادة الأوروبيين مدفوعون إلى هذا دفعاً، بعد أن تعالت أصوات الشجب والاستنكار التي تندد بقسوة أوروبا وقادتها، وتعالت نداءات منظمات الهجرة وحقوق الإنسان لهم لكي يتحملوا مسؤوليتهم تجاه المهاجرين غير النظاميين.
ولا شك أن حق الهجرة والتنقل داخلياً وخارجياً -بصفة مؤقتة أو دائمة- هو حق أصيل من حقوق الإنسان، إلا أن الأوضاع الاقتصادية والأمنية المتردية قد تدفع بكثيرين إلى ترك أوطانهم رغماً عنهم، بحثاً عن حياة أفضل ولو كان الثمن أرواحهم نفسها.
وقد ساهمت الفوضى الأمنية الدائرة بليبيا الآن -إلى حد كبير- في اتخاذها محطة عبور رئيسية لمواطني عدة دول عربية وإفريقية، للانطلاق نحو الحلم الأوروبي الصعب المنال! وتعمل السلطات الأوروبية -بشكل حثيث حالياً- على إيجاد حلول لمشكلة تدفق المهاجرين غير النظاميين إلى أراضيها، الذين قُدّر عددهم عام 2017 وحده بنحو 157.400 مهاجر، حسب آخر إحصائية أممية.
وقد حاول القادة الأوروبيون السعي إلى الحصول على تفويض أممي لتدخل عسكري لمنع السفن من الوصول إلى شواطئ بلدانهم، ولكنهم لم ينجحوا في ذلك. وقدّرت آخر إحصائية للمفوضية الأوروبية لعام 2016 عدد المهاجرين من الجنسيات المقيمة بأوروبا من دول لا تتبع للاتحاد الأوروبي بما يقارب 35 مليون شخص.
وقد أنشأ الاتحاد الأوروبي صندوق اللجوء والهجرة والدمج للأعوام 2014-2020 بمبلغ 3.4 مليار يورو قابلة للزيادة، لمواجهة احتياجات المهاجرين بصفة شرعية في أوروبا.
كما تنفق أوروبا الآن الكثير من الأموال الطائلة على عمليات المراقبة الحدودية براً وبحراً وجواً، وتنفق المزيد على عمليات الإنقاذ وانتشال جثث ضحايا الهجرة غير النظامية.
كما أن القادة الأوروبيين يحاولون الوصول إلى سياسة لجوء موحدة، تُلزم كل دولة بتحمل حصة محددة ومتساوية من أعداد المهاجرين غير النظاميين، ولكن نظراً لوجود 28 دولة في الاتحاد الأوروبي فإنه سيكون صعباً الوصولُ إلى اتفاقية ملزمة للجميع، لتباين الظروف الاقتصادية والديمغرافية بين الدول، وإحجام دول ذات ثقل -مثل بريطانيا وفرنسا- عن الالتزام بحصة موحدة.
وَهْم المسؤولية الأوروبية
كل هذه الأحداث تدور وتمور والقادة العرب والأفارقة يعقدون القمة تلو الأخرى تحت مسميات وأجندات خاوية من هموم مواطنيهم الحقيقية؛ فبينما تنعقد القمم الأوروبية الطارئة، لم تعقد حتى اليوم أي قمة عربية أو إفريقية خاصة لمناقشة هذه الأزمة المستفحلة.
ولا ينبس هؤلاء القادة ببنت شفة عن موت الآلاف من بني جلدتهم في مياه المتوسط، بل هم سعداء بأنهم خارج نطاق التغطية الإعلامية وبعيدون عن شجب الرأي العام وسخط المنظمات الحقوقية الدولية! مكتفين بغبطة سرية بالغة برمي "المسؤولية الأخلاقية" تجاه مواطنيهم على أوروبا وقادتها، بدعوى التركة الثقيلة التي خلفتها عهود الاستعمار الأوروبي في بلدانهم.
هذا مع أن العقود والسنوات التي أعقبت استقلال هذه الدول لم تحمل لمواطنيها -بسبب سياسات القادة الرعناء- سوى المزيد من الفقر والجهل والمرض! ولكن في الوقت ذاته؛ لن يجدي إنكار أن السياسات الخارجية الأميركية والأوروبية -التي تدار بشكل علني وخفي- قد ألقت بظلالها السلبية على مسيرة التنمية في العديد من دول العالم، بل وأدت حتى إلى تفكيك منطقة الشرق الأوسط وإشاعة الفوضى فيها.
والنتيجة التي تدفعها أوروبا مرغمة الآن هي أن هذه الدول لم تفلح سوى في تصدير مهاجرين غير نظاميين -وفي الأغلب غير مؤهلين- إلى أوروبا، وبالتالي تنعدم إمكانية الاستفادة منهم حتى كعمالة رخيصة؛ لأن أوروبا في مسيرة تطورها المستمرة استغنت -إلى حد كبير- عن الإنسان بالآلة، ولذا فإن سوق العمل الأوروبية تحتاج إلى علماء وخبراء وليس لعمالة يدوية.
ويكاد تقرير "سي إن إن" الأخير يكون الوحيد الذي أفلح في إيقاظ القادة الأفارقة من سباتهم العميق؛ حيث أشعل موجة من الغضب داخل أروقة الاتحاد الإفريقي، فطالب قادة دوله بتحقيق فوري وسريع وباتخاذ إجراءات قضائية فيما أثير بشأن المتاجرة المؤسفة بالمهاجرين، التي وصفوها بأنها "ممارسة عبودية حديثة يجب أن تنتهي فوراً".
أبواب عديدة موصدة
هنالك قلق متزايد من أن هؤلاء المهاجرين لن يجلبوا للدول الأوروبية سوى المزيد من الأعباء في ظل الركود الاقتصادي الذي يشهده العديد منها، هذا بالإضافة إلى مخاوف أوروبا المتصاعدة من التهديدات الإرهابية والأمنية التي يمكن أن تتعرض لها من جراء الوجود الأجنبي غير المقنن.
ولذلك برزت حالياً دعوات إلى الانفتاح الانتقائي الذي يخدم المصلحة الأوروبية، وإلى وضع معايير محددة لاختيار الأشخاص الراغبين في الهجرة إلى أوروبا كما تفعل كندا مثلاً. ويمكن لهذه السياسة الانتقائية في قبول المهاجرين أن تنتج المزيد من الانعكاسات السلبية على الدول التي ينحدر منها المهاجرون، باعتبار أنها ستستقطب نخبة مجتمعات هذه الدول وخيرة أبنائها.
اتهامات التقصير تجاه المهاجرين شملت بشكل خاص دول الخليج العربي التي تتمتع باقتصاديات مزدهرة وكثافة سكانية قليلة، مما يتيح لها منح حق اللجوء والإقامة والتجنس لمواطني بلاد عربية يربطها بها الكثير من الوشائج التاريخية والدينية واللغوية. ولكن الدول الخليجية فضلت إغلاق أبوابها أمام هؤلاء اللاجئين والاكتفاء بتقديم العون المادي لهم في مخيمات للاجئين أنشئت خارج حدودها!
في مقابلة لقناة "بي بي سي" الإخبارية العربية مع أحد المسؤولين في دولة عربية خليجية؛ تحدث هذا المسؤول عن دفوعات بملايين الدولارات قُدّمت لدعم اللاجئين العرب، ليس فقط في المخيمات ولكن أيضاً من خلال دعم المنظمات غير الحكومية ومنظمات الأمم المتحدة المختصة بشؤون اللاجئين.
وربما فضلت دول خليجية الاكتفاء بدور المانح خشية منها أن تنتقل عدوى لقاحات الربيع العربي إليها من القادمين من دوله؛ فرغم ما تتمتع به المجتمعات الخليجية من استقرار اقتصادي ورفاه اجتماعي، فإن هنالك أصواتاً كثيرة تنادي بضرورة تبني إصلاحات في هذه الدول، خاصة في مجالات الحوكمة والممارسة الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان.
هذه التدوينة منشورة على موقع الجزيرة
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.