كثيراً ما أقرأ منشورات لشباب وبنات في سن المراهقة أو في العشرينيات وربما الثلاثينيات يتحدثون فيها بصورة فكاهية عن جنون الأمهات، أو لنقل "عصبتيهن" كما يُشار إليها. والعصبية من الأعصاب كما نعرف، والأعصاب في تعبيراتنا اليومية تشير إلى الحالة النفسية بدرجة كبيرة، فنقول: أعصابي تعبت، وفقد أعصابه كترجمة للتعبير الإنجليزي "lost his nerves "، وأعصابه تعبانة.. إلى آخر ذلك.
دعوني أقول إنني كنت هكذا أيضاً، أفكر لماذا لا تكون أمي (التي أنجبت 9 أطفال وساعدت والدي في إطلاق عمله الخاص ثم عملت مدرسة لفترة من حياتها)، لماذا لا تكون هادئة قليلاً؟ لماذا لا تكون رائقة البال أكثر؟ لم أسمع إخوتي يبكون ليلا طلبا للحليب، ولم أسهر معهم عندما كانوا مرضى، ولم أتابع دراستهم ولم أخطط ميزانية أدواتهم المدرسية أو ثياب العيد أو أفكر في مشاكلهم الصحية. ولكنني كنت أفكر كثيرا لماذا لا تكون أمي هادئة قليلاً؟
أذكر أنني مرة استيقظت بسبب مغص في معدتي، فوجدت أمي تسهر بجانب أختي التي داهمها المرض ليلا. أعدت لي أمي كوبا من الميرمية بالسكر وعدت لأنام، بينما بقيت هي بجانب المريضة الأخرى. كثيرا ما كان والداي يتحدثان عن كثرة عددنا وكم أن هذا يثير الجنون في بعض الأحيان، فنرد عليهم: لم يجبركم أحد على إنجابنا! ولكن الحقيقة أنني الآن أحمد لله أنهما فعلا! مع أنهما مازالا يحملان الهم ويتابعان أعباء الباقين، ولكنهما لا يعرفان كم أضافا لهذا العالم بإنجابنا.
مهندسون وباحثون في السرطان واللغة وآباء وأمهات الآن وفي المستقبل إن أذن الله بذلك. كل منا ارتبطت حياته بحياة آخرين، لسنا مثاليين ولكننا ساهمنا بصورة ما في تغيير شيء من حولنا إلى ما نأمل أن يكون خيره أكثر من شره! فعلى ما الندم؟ ومن الذي يتجرأ ويصدر الأحكام على والدي بعد أن أفنيا عمرهما في إنشاء لا شخصا واحدا بل 9 أرواح إنسانية لهم من يحبهم ويحبونه، ويخدمون غيرهم وينشئون بدورهم أفرادا آخرين؟
لقد استنفدت أمي صحتها وطاقتها في أكثر من 9 أجنة، وصل منهم إلى هذه الحياة من وصل، وغاب عنها من غاب. عظامها ودمها وعيونها ودماغها وكل جزء منها، أضف إلى ذلك "أعصابها" التي تعاملت مع الطفل الذي يبكي طوال النهار، والذي لا يريد الدرس، والذي تسبب في مشكلة في المدرسة، والتي تخاصمت مع صديقتها، والتي تعاني من مشاكل المراهقة وتبعاتها، والذي يعاني من مشاكل عاطفية، و و و…، ولكنني خلال كل ذلك لم أكن أنظر إلا إلى ما يمكن أن تفعله بصورة أفضل، وما يمكن أن تقوله بصوره أفضل، وطريقة التربية الأفضل التي كان من الممكن أن تتبعها، وعدم التفهم وعدم التقدير الذي نتلقاه كأبناء وبنات في القرن الحادي والعشرين!
لم أفكر يوما كم أنه من المتعب والمرهق للفكر والأعصاب أن تحاول التواصل مع شخصيات مختلفة في نفس الوقت وطوال الوقت، أو أن تقول لأحدهم أن يفعل شيئا يسهل عليها حياتها قليلاً فيرفض أو يتأخر لأسباب "تافهة"، كأن يتحدث مع زميل له في الهاتف، أو تشاهد أخرى برنامجا ما في التلفاز. لم أقدر صعوبة أن تغير طريقة تفكيرك لتتلاءم مع أشخاص ولدوا بعدك بـ 25 عاما لهم زمنهم وثقافتهم وخبراتهم الخاصة، صعوبة تجعلك تغضب من نفسك ومن هذا العالم معا.
لماذا تصاب الأمهات بالجنون أو بالانهيارات العصبية المفاجئة أو بنوبات بكاء غير مبررة أو بكآبة طاغية في أوقات غير منطقية؟
تقول إحدى الدراسات العلمية إنه بينما تركز غالبية المقالات والأبحاث على صحة المرأة النفسية خلال الحمل وبعد الولادة، إلا أن نتائجها توصلت إلى أن عددا كبيرا من الأمهات يعانين من مشاكل نفسية متعلقة بالأمومة بصورة مباشرة أو غير مباشرة حتى بعد مرور أربع سنوات من ولادة طفلهن الأول. أهم الأسباب التي يتحدثون عنها هي بكل بساطة "قلة النوم"!
الحرمان من النوم هو وسيلة معروفة من وسائل التعذيب، حتى معسكر جوانتنامو لم يستغنِ عنها! الحرمان من النوم قد يؤدي إلى أعراض تتمثل في: ضعف القدرات العقلية، التوتر، الغضب، والقابلية السريعة للاستجابة للاستفزاز، وسرعة التأثر، وحتى الأمراض النفسية. فتخيل أن الأمهات لا يحصلن على ليلة كاملة من النوم بصورة مزمنة تمتد لسنوات. وإن قررت الأم إنجاب أطفالها بفارق عمري بين العام أو العامين لأنه أفضل للأطفال كما ترى، فإنها قد تمضي من 4 إلى 6 سنوات من عمرها لا تنام بصورة كافية.
علينا بجانب حديثنا الطويل عن مشكلات الأمهات، ومواطن الخطأ بتربيتهن، ومواطن الإصلاح، أن نتحلى بشيء من المغفرة والرحمة بهن، والفهم الأعمق لحقيقة ما يقمن به
فما بالك وهذه الأم تضيف إلى هذا التعذيب عملا أو وظيفة؟ وعلاقات اجتماعية في غالبها تزيد من الأحمال بدلا من تخفيفها، والتزامات عائلية، وأدوار أخرى تقوم بها كل أم حسب ظروفها وعمرها ووضعها المادي والاجتماعي وغير ذلك. ومع ذلك فإن أمهاتنا يخرجن من الجهة الأخرى على قيد الحياة، بل ومحتفظات بغالبية قدراتهن العقلية سليمة معافاة، ويقمن بهذا الدور مجددا إن تطلب الأمر عندما تنجب بناتهن الأحفاد والحفيدات، فيسهرن حتى ترتاح الصبية، وتحملن عبء الأسابيع الأولى حتى تتعافى الشابة، وربما تابعن اهتمامهن بهؤلاء الأطفال لأن الابنة ستخرج للعمل قريبا، ولن تستطيع أن ترسل رضيعها للحضانة.
فلماذا لا نسأل من أين تأتي الأمهات بالصبر؟ ومن أين تأتي الأمهات بالطاقة؟ وكيف تحافظ الأمهات على صوابهن؟ لماذا نسأل فقط عن جنونهن المؤقت؟ لماذا نرى فقط لحظات ضعفهن ومواطن الخطأ في ما يبذلنه من جهد؟ ولماذا لا تنزاح غشاوة السذاجة عنا إلا عندما ننجب نحن أيضا أطفالا ونشرب من الكأس نفسه؟
في مقطع من رواية "Dolores Claiborne" للكاتب (Stephen King) يقول في جملة قصيرة جداً: "ليس هناك أنثى شرسة أو مجنونة على وجه هذه الأرض كالأم المذعورة على أطفالها". إذا يبدو أن هناك انتشارا إلى حد كبير لفكرة أن الأمهات يصبن بالجنون، ولكننا ربما يجب أن نختلف حول طريقة نظرنا إلى هذا الجنون؟
وربما علينا أيضاً إلى جانب حديثنا الطويل عن مشكلات الأمهات في الأجيال التي سبقتنا وجيلنا، ومواطن الخطأ في تربيتهن، ومواطن الإصلاح، أن نتحلى بشيء من المغفرة والرحمة بهن، والفهم الأعمق لحقيقة ما يقمن به، بعيدا عن تكرار عبارات مثل "ما كل النسوان بتخلف"، والعبارة الأكثر تخلفا "ما الأرانب بتجيب ولاد"، ولنتوقف عن التقليل من شأن ما يعانينه، لأن ذلك بطبيعة الحال فيه مخاطرة بأن يصبحن أكثر جنوناً!!
هذه التدوينة منشورة على موقع الجزيرة مدونات
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.