المسجد.. بيت المحرّكات الألمانية!

إلى جانب المظهر الخارجي البديع الذي يجمع أكثر من طراز معماري إسلامي، من الأندلسي إلى المملوكي فالعثماني، فقد قام المعماري الألماني كارل فون ديبيتش المتخصص في العمارة الأندلسيّة، بتصميم المبنى من الداخل ليكون أشبهَ بنسخة مُصغرة عن مسجد قُرطبة الجامع

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/14 الساعة 07:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/14 الساعة 07:30 بتوقيت غرينتش

ما أكثر ما يرتبط المسجد في أيامنا هذه بالإرهاب، ومن يُتابع الصحافة الألمانية لا بُد أنه سمع عن سلسلة "تقرير المساجد" -بالألمانية "Der Moscheereport"- الذي أعدّه قسطنين شرايبر وراح يُحرّض فيه ضد المساجد وتطرفها، حتى اضطرت القناة إلى حذف إحدى الحلقات بعد تهديدها بالتوجه للقضاء بسبب أخطاء في الترجمة وتضليل واضح للجمهور.. وليس غريبًا، بعد ذلك، ألا نستوعب اليوم: كيف يُمكن أن تكون للمساجد علاقة بالثورة الصناعية والمحركات الألمانية!

حتى أنا لم أكن أستوعب ذلك، إلى أن سافرت إلى مدينة بوتسدام، التي تبعد حوالي نصف ساعة بالقطار عن العاصمة برلين. وبوتسدام هي المدينة التي كان يلجأ إليها الملك البروسي الشهير فريدريش الكبير ليروّح عن نفسه، وقد بنى له هناك قصرًا باروكيًا سماه "سانسوسي"، وهي كلمة فرنسية تعني "بلا هموم"، فكان يُحب الجلوس في ساحة القصر ويرى المياه تتدفق بقوّة من النوافير نحو السماء. ولم يكن المطلب حينذاك سهلًا بالنسبة إلى المهندسين، حتى أن الملك توفي قبل أن يتحقق حلمه ذاك.

في 1841، كانت الكثير من الأمور قد تغيّرت، وأهمها أن الثورة الصناعية كانت قد بدأت واستطاع الألمان تطوير أقوى آلة بُخاريّة في تاريخهم وكانت قدرتها 60 كيلو واط، وهكذا استطاعت بروسيا الاحتفال بأول قطار بخاري سريع مصنوع في بروسيا -ألمانيا اليوم- وكان هذه فرصة مميزة بالنسبة إلى الملك فريديش وليام الرابع لتحقيق حلم "النوافير"، القديم الذي لم تكن الطواحين المائية لتُحققه لجدّه فريدريش الكبير.

وبالفعل، تم تركيب المضخّات البخاريّة "البروسيّة" عند ضفّة نهر "هافل"، التي كانت تتطلب 4 أطنان من الفحم الحجري يوميًا كي تنقل المياه إلى قصر "سانسوسي" على بُعد كيلومترين تقريبًا من النهر لتزوّد القصر والحدائق الضخمة بالمياه، والأهم النافورة، التي كان يصل ارتفاع المياه فيها إلى حوالي 38 مترا، وهو رقم قياسي للهندسة في تلك الأيام.

القصّة لا تنتهي هنا، بل تبدأ.. ومن يبحث في تاريخ الألمان مع الإسلام سيجد أن أحد أجداد هذا الملك جعل له عشرين جنديًا من "الأتراك" في حراسته الشخصية وأقام لهم أول مسجد في ألمانيا في 1732، ولكنه تهدم مع الوقت، وفي عهد الملك "فريدريش الكبير" تحديدًا، توطّدت العلاقات بالدولة العثمانية حتى بلغ عدد الجنود الأتراك حوالي 1000 جندي وكان يأمر باحترامهم واحترام الدين الإسلامي. واستمر هذا "التسامح" حتى جاء عهد فريدريش وليم الثالث واستقر، في 1796، أول سفير عثماني رسمي في برلين ودُفن فيها.

وبالعودة إلى الحفيد فريدريش وليام الرابع، المقلب بـ"الرومانسي على العرش"، فقد كان كما يبدو مُعجبًا بالحضارة الإسلامية والعثمانيّة على الخصوص والفنون عامّة، فبعد انتهاء مشروع "النوافير" لم يكن ليقبل أن تترك المحركات البخاريّة ذات الشكل القبيح لتُسئ إلى جمال مدينته وما فيها من عمائر فنيّة، فكانت رغبة الملك أن توضع المضخّات البخارية في مبنى بديع لم يكن له مثيلٌ في بوتسدام من قبل، ليراه متى شاء من نافذة قصره.

يومذاك، كانت رغبة الملك واضحة: "فليكن المبنى على طراز مسجد تُركي -عثماني- مع مئذنة تعمل كمدخنة"، كما دوّن ذلك المعماري لودفيغ برزيوس في مذكراته. ولم يكن ذلك غريبًا جدًا حينها، فقد كانت هناك نزعة واهتمام بالثقافة العثمانية استمرت لأكثر من 200 عام، وهو ما يُعرف بالموضة التركية -بالألمانية "Türkenmode"- التي بدأت بعد حصار فيننا وبلغت ذروتها في القرن الثامن عشر. وقد بُنيت حينذاك عدّة مبانٍ يظن من يراها أنها مساجد، كمسجد قصر هوهينهايم (Hohenheim) في 1778 ومسجد كاسل فيلهلمزهوهي (Kassel-Wilhelmshöhe) في 1784. وقد تهدّمت هذه "المساجد" بمرور الزمن ولم يبق إلا "المسجد الأحمر" في شفيتسينجن (Schwetzingen) الذي بُني في 1795 والذي يُقال إنه لم يُبنَ كمسجد، وإنما فقط من باب التشبّه بالآخر، العثماني، أو حتى من باب إعلان التسامح مع الإسلام والحضارات الأخرى.

لمميز في هذا "المسجد"، أو "بيت المحركات البخاريّة" (Dampfmaschinenhaus) كما يُسمى أنه لم يكن مُجرد مبنى، بل كان يحتوي على ذروة ما وصلت إليه الهندسة الميكانيكية البروسيّة في تلك الأيام (1845م) وهي المضخّة العجيبة التي تنقل المياه من نهر "هافل" إلى نافورة القصر، فتقذف بها إلى السماء حتى تبلغ 38 مترا؛ في مشهد "يسّر الناظرين". وهي نفسها التي جعلت القطارات تتحرك بكيفية أسرع، قاطعة المساحات الشاسعة في وقت خياليّ حينذاك. وبالتالي كان لا بُد لمن أراد أن يرى هذه الآلة العجيبة أن يدخل هذا المبنى، الذي لا يتخيّل من يمر به أنه ليس مسجدا، بل إن من يُشاهده يتخيّل وكأنه يُشاهد قطعة من دمشق.. أو القاهرة أو حتى الأندلس.

إلى جانب المظهر الخارجي البديع الذي يجمع أكثر من طراز معماري إسلامي، من الأندلسي إلى المملوكي فالعثماني، فقد قام المعماري الألماني كارل فون ديبيتش (Carl von Diebitsch) المتخصص في العمارة الأندلسيّة، بتصميم المبنى من الداخل ليكون أشبهَ بنسخة مُصغرة عن مسجد قُرطبة الجامع، ما جعل المبنى تُحفة من التحف المعماريّة الالمانية من ناحية تصميمه وحتى تاريخه. وقد ترشح لجائزة للمباني المعمارية التاريخية المميزة في 2007. ورغم أنه لم يحصد الجائزة فإن سحر هذا المبنى الشبيه بالمسجد ا زال يجذب أنظر السيّاح حتى يومنا هذا، ما يؤكد أن هذه التحفة المعمارية الإسلامية كانت أول حاضنة للمحركات البُخارية الألمانية!

هذه التدوينة منشورة على موقع مدونات الجزيرة

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد