كيف تُصنع الصورة الذهنية؟

وسائل الإعلام لها القدرة على تزييف الواقع -أو نقله كما هو- إن أرادت، وهذه أمور علينا أن نعيها؛ حتى لا نصدق كل ما يُبث عبرها، فهي تعمل من خلال الانتقاء المتعمد لبعض المَشاهد والمفاهيم والكلمات والصور وتكرارها مع استبعاد كلمات ومشاهد أخرى على النحو الذي تجعلنا نظن أن كل ما يتم عرضه في وسائل الإعلام هو الواقع الحقيقي.

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/13 الساعة 02:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/13 الساعة 02:53 بتوقيت غرينتش

كثيراً ما أسهم الإعلام في خلق وتشكيل انطباعاتنا عن كل الأشياء، إن صوَّره لنا الإعلام على أنه شيء جيد فهو كذلك، وإن ذمه فهو بكل تأكيد أمر غير مرغوب فيه، هذا الأمر يُعرف بالصورة الذهنية.

والصورة الذهنية، هي الصورة العقلية التي تتكون في أذهان الناس عن الأشياء المختلفة، وذلك بحسب المعلومات والأخبار التي يتلقاها الناس، أحياناً تكون هذه الصورة عقلانية وأحياناً غير ذلك، ولكنها في نهاية المطاف تمثل واقعاً صادقاً بالنسبة لمن يحملونها في رؤوسهم.
لعب الإعلام دوراً كبيراً وخطيراً في الوقت ذاته، في خلق هذه الصور الذهنية عن كل الأمور، وبسبب الانتشار الكبير لوسائل الإعلام وكمية الأخبار الكبيرة التي تبثها، تعد من أهم القنوات في تشكيل الصور الذهنية لدى الناس.

القائمون على وسائل الاعلام يختارون المعلومات وفقاً لأهوائهم؛ السياسية، الدينية، القومية… إلخ- وهو الأمر الذي يزيد من تغيير الصورة المشوهة أصلاً لدى المتلقين، فوسائل الإعلام هي الوسيلة الرئيسية لنقل الصورة والآراء والأفكار، وتدعم وسائل الإعلام الصورة الذهنية الموجودة سابقاً في أذهان الأفراد فتضفي عليها بعداً أوسع، لكن دورها الأكثر أهمية يكمن في عملية خلق صورة ذهنية عن الموضوعات الجديدة التي لا يملك الفرد عنها أي معلومات، وهنا تكمن كل الخطورة.

وسائل الإعلام تلعب ثلاثة أدوار في صناعة الصورة الذهنية، فهي إما أن تكون ساحة أو طرفاً أو أداة لطرح التصورات، وتلجأ الحكومات والقوى السياسية المختلفة إلى استخدام وسائل الإعلام كساحة تطرح فيها تصوراتها أو قد توظفها كأداة لدعم وتثبيت تصوراتها. وأحياناً، تكون طرفاً فاعلاً له مفاهيمه وتصوراته، وقد تتداخل الحالات الثلاث وتتفاعل لتصبح وسائل الإعلام ساحة وأداة وطرفاً في الوقت ذاته.

وبعد أن تنجح وسائل الإعلام في تثبيت الصورة الذهنية التي تريدها في ذهن المتلقي، يصبح من الصعب حذفها. ويمكن لوسائل الإعلام -كما أسلفنا- أن تدعم هذه الصورة أو تضيف إليها بعض التفاصيل، لكن عملية إلغائها تعد من العمليات الصعبة.

ونلحظ ذلك حين تبث وسائل الإعلام بعض الأخبار التي لا تتناسب مع الصورة الذهنية الموجودة عندنا مسبقاً، فيرفضها العقل -حتى ولو كانت حقيقية- ونشعر بأن هناك نفوراً منها وعدم الرغبة في الاستماع إليها.

رغم ذلك، لا يمكن القول إنه من المستحيل تغيير القناعات المثبتة لدينا والتي خلقتها المعلومات المتراكمة، سواء بقصد أو من خلال تجارب في الحياة، لكن يمكننا الجزم بأنه أمر صعب ولا ينجح مع الجميع، وهذا هو مكسب الإعلام الموجه، هذا النوع من الإعلام يهمه التأثير على العدد الأكبر من الناس.

وعلمياً وتاريخياً، يمكننا أن نقول إن الأغلبية تتأثر وتخلق الصور الذهنية التي يرغب الإعلام -سواء كان أداة أو ساحة أو طرفاً- في ترسيخها، ولا ينجو منها إلا أعداداً بسيطة، منهم من يقاومها ومنهم من ينجح في تعديل هذه الصورة المثبتة عنده.

لكن في جميع الأحوال، يبقى للإعلام اليد الطولى في هذا الأمر، فحتى من يقاوم هذه المعلومات يقاومها لأن لديه صوراً ذهنية مختلفة صنعها إعلام آخر، ومن قبِل بتغيير قناعته وعدّل في شكل الصورة التي يملكها يكون قد تأثر بما ينشر من معلومات من وسائل أخرى!

كثير من الدراسات ذهبت إلى أن هناك عوامل أخرى قد تكون أكثر أهمية في خلق الصورة الذهنية، منها على سبيل المثال: المكون الديني، التنشئة الاجتماعية، الخبرة الشخصية، السمات النفسية والاجتماعية، القابلية للانخداع، الكسل العقلي، الجهل… إلخ. لكن المؤكد والمثبت هو أن وسائل الإعلام قادرة على استغلال كل هذه العوامل لصالحها.

وسائل الإعلام لها القدرة على تزييف الواقع -أو نقله كما هو- إن أرادت، وهذه أمور علينا أن نعيها؛ حتى لا نصدق كل ما يُبث عبرها، فهي تعمل من خلال الانتقاء المتعمد لبعض المَشاهد والمفاهيم والكلمات والصور وتكرارها مع استبعاد كلمات ومشاهد أخرى على النحو الذي تجعلنا نظن أن كل ما يتم عرضه في وسائل الإعلام هو الواقع الحقيقي.

وبما أنها قادرة على أن تخلق ذلك الواقع الافتراضي "المشوه"، فهذا يعني أنها الوحيدة القادرة على إبقائه ثابتاً في أذهان الجماهير عبر توظيفها آليات التكرار والملاحقة، والحشد والتعبئة، وصناعة الخوف من خلال الترهيب والترغيب… إلخ.

يتضح ذلك جلياً في أبسط الصور، مثلاً في أفلام السينما، فهي ليست مجرد مواد معروضة للترفيه وللكسب المادي فقط، وإنما هي واحدة من أهم وسائل الإعلام المستخدمة، فقد ساهمت السينما في خلق صور ذهنية منتقاة بعناية لدى الملايين من البشر عن العديد من الشخصيات والمناطق وحتى دول بكاملها، الحيوانات لم تَسلم من تشويه صورتها لدى الناس، حتى إن العديد من علماء الأحياء المائية طالبوا في أكثر من مناسبةٍ مخرجي الأفلام بعدم الاستمرار في تشويه صورة أسماك القرش وكأنها وحوش متعطشة للدماء تهاجم البشر، فقط من أجل تحقيق مكاسب مادية لهم، فأفلام أسماك القرش دائماً تلقى رواجاً كبيراً في شباك التذاكر.

علمياً، أسماك القرش نادراً ما تهاجم البشر، فهو ليس في قائمة طعامها المفضل، هذا لا يعني أنها كائنات مسالمة بكل تأكيد، متوسط عدد الهجمات التي يتعرض لها الإنسان من أسماك القرش لا يتجاوز 50 هجمة سنوياً، لم يتجاوزعدد القتلى 6 أشخاص في جميع أنحاء العالم، من جهة أخرى يقتل "الفيل" سنوياً 300 شخص، بحسب آخر إحصائيات الحكومة الهندية!

هذا مثال بسيط على الكيفية التي تعمل بها وسائل الإعلام، فهي قادرة على التزييف وعلى خلق واقع غير صحيح والتركيز على أمور وغض الطرف عن نقاط أخرى لا تخدم مصالحها، كما هو الحال في قضية "القرش" والفيل"!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد