همسات شتاء

هنا لندن.. من ساعة بيغ بن التي تطير بنا عبر الغرب مسافات، ونصدق ما يملى علينا من أكاذيب الأخبار، ويكون الموعد قد حان لارتشاف قهوة الصباح، من دلة الأجداد المعبأة بعبير الهيل وغبار سوالف الحكايات، تتناوب على تقديمها الأم والبنات بكل حنان التربية والأخلاق.

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/12 الساعة 02:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/12 الساعة 02:21 بتوقيت غرينتش

أهلا بالخير وحبات الأمطار، كم أعشق حبات الشتاء، الشتاء يذكرني بطفولتي، يذكرني بمنزل العائلة العتيق والجيران.
يذكرني باللمة قبل أن يبتلعنا الزحام والتغريب عن الأوطان، يذكرني بأمي وهي تشعل بحرارة قلبها ودفء وعطف نورها مدفأة الكاز وكانون الفحم وحمام الحطب للغسل والاستحمام.

يذكرني الشتاء وهو يغسل الملوثات والقاذورات، يذكرني بنقاء العقول، وسعة الصدور، وصفاء النفوس، وبياض القلوب، من الأكدار والأمراض، في العوائل والبشر والأصحاب، يذكرني برقه ورعده وعواصفه بضرورة الاحتماء بمظلة السكون والصمت، أو الإنصات، للحن عذب وسيمفونية جبروت وإعجاز لخالق الكون، ومنطق الحوار بين القطرات وهي تناجي همسات الندى الذي يتشكل على الأشجار والبيوت والأبواب.

هي معزوفة الخير، تصب من السماء ماء الاستسقاء للنبات والحيوان والإنسان؛ لاستمرار الحياة، وإكسير البقاء.
يذكرني الشتاء بأبي وهو يغسل وجهه السموح في باكر الصباح، ويتبعه الجلوس بثقة في السرير يستمع لنشرة الأخبار، من مذياعه الصغير يعلن التوقيت.

هنا لندن.. من ساعة بيغ بن التي تطير بنا عبر الغرب مسافات، ونصدق ما يملى علينا من أكاذيب الأخبار، ويكون الموعد قد حان لارتشاف قهوة الصباح، من دلة الأجداد المعبأة بعبير الهيل وغبار سوالف الحكايات، تتناوب على تقديمها الأم والبنات بكل حنان التربية والأخلاق.

نهرول للمدرسة سائرين على الأرجل، ثلة ومتشابكي الأيدي زمراً وجماعات، بزي موحد، والمطر يبللنا، ونحن نكرر الدروس والمحفوظات، ونتقاذف حكايات الجد والهزل، والضحكات والنكات، والهفوات والتعليقات عن المديرة والمعلمات، ثم يأتي القدر، فينثر نعمه أو نقمه علينا، حسب سلوكنا ذاك النهار، شمس أو ضباب، قد نعاقب لسلبيات أو نكرم لارتفاع التوصيات وعلو الدرجات، ننالها مع ساندوشات.
السكر والسمن أو الزيت والزعتر والجبن المقرمش على الموقد مع المساء.

تلك هي التربية وحكمة التصرف والحزم في أمور الحياة هي ديمقراطية كالطبيعة!
الغني والفقير.. كل له نصيبه، بعدل وقدر وبالميزان.

أعشق الشتاء؛ لأنه يمحو كل الصور وكل الزيف والأصباغ، ويسقط القناع عن الوجوه والأجسام.
أعشق الشتاء وهو ينساب على الوجوه والشعر كالشلالات، وتحمر الخدود والأصابع وتخلط الدمعات والزفرات، ويلين الكلام كحلوى الملبن مانحاً الدفء للغلبان.

أعشق الشتاء؛ لأنه يشعرني بالطمأنينة بأن هناك قوة إلهية فوق العباد تتحكم بمصير العباد، وتفتك بالظالم وتنصر المظلوم، يوم يحين الحساب للسارق والفاسد والناهب لأرض الأنبياء.

أعشقه لأنه يذكرني بالحرية والبراءة التي كانت تغسل الهموم والأحقاد، أعشقه لأن حبات المطر وهي تنهمر فوق الرصيف والحقول، وتروي المراعي والأعشاب، تأخذني لبصيص أمل بأن هناك خيراً وأملاً وتفتحاً لزهور ربيع قادم، فبعد كل شتاء يحل الربيع وتملأ شمس المكان، ويحل الضوء رغماً عن سواد قلوب الظالمين والقساة.

إن ديمقراطية الطبيعة بمناخاتها تعلمنا كل الدروس والعبر للغني والفقير بسواء، فهي تعامل كل الأجناس والطبقات بعدل وبنفس المكيال، قد يصاب الكل بإنفلونزا الشتاء، ولكن مَن يملك المال؟
ومن يملك صحة الأبدان؟ واليسير من الترف والأمان، فهذا موفور الصحة، ولكنه لا يملك الإمكانيات، وذاك ما نفع الثروة والقصور لو كان بحاجة للصحة والعافية وراحة البال.

حقاً الله قاسم الأرزاق، ولكن الإنسانية أيضاً مجبولة بعقل التصرف والنبل والاحتكام؛ لذا لا بد أن نتذكر أن مَن له الكوخ المعدم بان شتاؤه قاسياً وليله بارداً وبحاجة للإحسان.

كلنا مغادرون لنلاقي وجه ربنا؛ لنسأل عن صالح الأعمال وعن أفعالنا في الصيف والشتاء.
إن حبات الكستناء لذيذة في الشتاء، وكوب السحلب وحبات البليلة أيضاً هي أيضاً مذاق فاخر لعموم الناس.
ما أجمل شعور دفء العطاء في الشتاء وفي كل الأيام! كم أعشقك يا شتاء.. صباحكم ومساؤكم نديّ ومشرق بالمحبة وبالخيرات والأرزاق، رغم ضباب الأجواء.. ادعوا معي:

"اللهم في هذا البرد القارس نستودعك كل مَن ﻻ مأوى له، نستودعك كل مَن ﻻ لباس له، نستودعك كل مَن ﻻ دفء له، نستودعك كل مَن ﻻ معيل له، نستودعك كل مبتلى، وكل مفقود، وكل مريض، وكل جريح، وكل أسير، نستودعك كل مَن يتألم، وكل مَن يسألك".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد