لماذا نكتب؟

وما لنا من وسيلة إلا أن نُعبِّد الطرقات المقطوعة بالأبجدية المكلومة علّها تسعفنا ونلفظ شهقة الوصول؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/11 الساعة 05:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/11 الساعة 05:08 بتوقيت غرينتش

سؤال يقضُّ مضجعَ من علّق روحه برأس قلمه، وسكب حبره في دم قلبه ليمتزج معه، ويجري في شرايينه، فأنّى باحَ للسطور وجد فيما كتب مرآةً لما يُخالجه ويعتريه ووصل إلى أعماق كل من قرأ ما بينها، لكن بعد كل لقاء لنا مع الأوراق لا بد أن نُسائل أنفسنا لماذا نكتب؟

لماذا ونحن قد أيقنا بعد سبع سنوات من الكتابة للوطن أننا كمن ينحتُ في الصخر، لا لقاء ولا شفاء؟ أنكتب للوطن الذي لا وقت لديه ليقرأ ما كتبنا، الوطن المنشغل بالاستماع لمعزوفات الرصاص وفك مكائد الحاقدين، الوطن المنشطر بين خراب وإعمار، بين حاضر وماضٍ، وبين مؤيد ومعارض؟! لماذا نكتب والأقلام لا حبر فيها إلا من دم ونذرف عليه دمعةً حمراء وأخرى سوداء، وهناك في الوطن أقلام من بارود تُسطّر تاريخه بأيدي المعتدين من تجار حرب ومدّعي ثورات ووائدي أحلام؟

انكتب لنخفي سوءة منفانا أم لنسقي أحلام اغترابنا؟! فيمتعضّ من في ظل الوطن من كلماتنا ويحترق بفيئها من يكابد ذات جراحنا، أم ترانا نعد بأقلامنا وجبات شوقنا لنرمم بها هشاشة أعمارنا ونمسح عن جبين السنين عبء تعدادها.. السنون التي تحفر في أرواحنا ثقوباً تشبه تلك التي حفرت في ملامح أوطاننا! نحاول عبثاً الهرب من دوامة تلك الأسئلة ليعيدنا هو إليه وإليها.

أوَنكتب ليَذكرَنا؟ وكيف يذكرنا إذ ليس ينسانا؟! ونحن الفارّون من أحيائنا، ونريد أن نحيا بذكرانا، فمع كل طلعة شمس نُحمّلها أمانة أسمائنا لتغزلها من خيوطها وتتركها ندبةً على وجه شرفاتنا، فتثقل عليها الأمانة وتطويها مع غروبها وغروب ميعادنا.

إلى متى سنوصي كل وردة هناك ألا تنسانا ونحن لم نَجُدْ عليها بقطرة ماء منذ سبع عجاف عطشت فيها العروق والورود، ونستودعها عند أحباب استودعناهم الخالق كما استودعناها؟! أم لعلنا نكتب قبل أن يشيخ القلم كما شاخ القلب، وقبل أن يشيب الحبر كما شابت شعرة الوصل بيننا وبين الوطن فنصبغها بحبر تعتق في الحنايا لتقوى ويقوى معها وهن الحلم؟!

وما لنا من وسيلة إلا أن نُعبِّد الطرقات المقطوعة بالأبجدية المكلومة علّها تسعفنا ونلفظ شهقة الوصول؟ لكن أنكتب ونحن نعلم أن من حولنا قد ملوا ضجيج القلم كما مللنا استماع نشرات الأخبار وكما فقدنا دهشة الخبر العاجل بعد أن تصدرناها بأرقام خذلان قياسية، والإحصائيات انتحبت على نازح ومهاجر وآخرين كثر لم ينالوا شرف الدخول في إحداها، غابوا كما غاب العدل واختفوا كما اختفاء الإنسانية.

فلماذا نكتب؟ لتشهد الأقلام أننا كنا شهوداً على مذبحة وطن أم ليصفق لنا إخوة الجرح وأشقاء الألم؟! كم أخشى أن يأتي الوقت الذي ترفع فيه الأقلام عن الوطن وتجف الصحف عن استيعاب مأساته، ويكون الجرح بعدما اندمل ونصاب الوطن من الموت ما اكتمل. فنقف عاجزين عن لقائه ولو سراً على الورق، ونشتهي وصله ولو بكلمة فيمنعونه عن الإنصات لنا بتهمة منفانا!

كخشيتي بيأس شجرة الأبجدية التي استظل بها من شمس الاغتراب فأهزّ إلي بجذعها ولا تساقط عليّ حروف وجع شهية. كيف السبيل وقتها للوصال أياً وطناً ننام على أمل لقائه ولو حلماً ليستقيم ظهر القلب السقيم شوقاً.

لكن إن كنا لا نستطيع أن نزرع على رصيف الوطن وردةً وليس بمقدورنا أن نرد عن خد ياسمينه رصاصةً، فلا بأس أن نكتب، ولكن جل خوفي أن تكون أقلامنا سكيناً تزيد عمق جرحه وجرحنا، فتتضاعف الأميال بيننا، ونحن نظنها إبرةً ترتق جسده المهشم كأرواحنا. وتطرز ساعةً من جلودنا المنصهرة شوقاً ولا تدق إلا من فرح لقيانا.

قد كتبنا حتى باتت الأقلام في أيدينا قيثارةً تعزف لحن الخلود لوجعنا فنحن لا نملك سواها نشيد السلام لوطن يشتهي السلام ولو على الورق.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد