فرانز كافكا (1)| أن تكون كاتباً مشهوراً وتشعر بالرعب من أبيك

ترى كم "هيرمان" يوجد عندنا في الوطن العربي؟ أظن أن الإجابة تقديرية؛ نظراً إلى أن الرقم هائل

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/10 الساعة 02:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/10 الساعة 02:04 بتوقيت غرينتش

نتناول في هذا المقال جوانب من حياة الكاتب التشيكي فرانز كافكا، الذي اشتُهرت كتاباته ونصوصه الأدبية بطابعها السوداوي التشاؤمي. يسعى المقال لتفكيك شخصية الكاتب إلى عناصرها ومكوناتها الأولية: الوالد، والمجتمع، والأسرة وطبيعة التكوين النفسية.

ويتطرق المقال إلى أهم عنصرين ساهما في تكوين شخصية كافكا الأدبية؛ وهما: عنصر الاغتراب، وعلاقته المضطربة بوالده.

هذا الجزء الأول من المقال إذا نال إعجابكم وإعجاب القراء، فسنتطرق إلى جوانب أخرى عن حياة الكاتب مثيرة للجدل في مقال آخر لاحقاً.

كافكا.. الابن البار للأدب

إن الأدب كالطعام، يمكن أن يكون مذاقه حلواً، أو مالحاً أو مُرّاً، وكل واحد منا له مذاقه الخاص المفضل، إذا لم يكن مذاقك الأدبي المفضل "مُرّاً"، فاحذرالاقتراب من أدب فرانز كافكا؛ فهو جرعة اكتئاب أدبية مركَّزة، لا يستطيع تناولَها كلُّ قارئ، ويمكن أن يُدخلك في غيبوبة اكتئابٍ، أنت في غنى عنها.

كافكا أيقونة الأدب السوداوي
فرانز كافكا، أو كما يلقَّب "رائد الكتابة الكابوسية"، كاتب تشيكي الأصل ويهودي الديانة، عاش حياته وهو منفصل ومنعزل عن محيطه؛ "لأنه غير قادر على الانغماس في الحياة الحقيقية كبقية البشر" (1).

تُعرف الكتابة الكابوسية بـ"تصوير الأحداث غير الواقعية بطريقة تبدو واقعية للغاية كما يحدث في الكابوس".

تمتاز نصوص كافكا الأدبية بالرمزية والغموض، فهي تحمل تأويلات وتفسيرات عدة. ويكسو كتاباته مزيجٌ من مشاعر البؤس والشقاء. أما أعماله، فهي وليدة شخصيته وطبيعته؛ فهو القائل: "قصصي هي أنا"، ويقول أيضاً: "حياتي هي محاولة للكتابة" (2).

يعد كافكا من أعظم كُتاب القرن العشرين، دخلت الكثير من أعماله الأدبية عالمُ السينما، مثل: "المسخ" و"القلعة". ويكتب كافكا ما لا نجرؤ نحن على الشعور به، فضلاً عن الاعتراف به، وهو لم يكتف بنبش وبعثرة مشاعر القارئ؛ بل تجاوزت عبقريته الأدبية ذلك لتصبح مصدر إلهام للكتابة.

"استيقظ غريغور سامسا من أحلامه المزعجة صباح يوم ما ليجد نفسه في سريره متحولاً إلى حشرة عملاقة"، يقول الأديب الكولومبي الشهير غابرييل ماركيز: "عندما قرأت ذلك السطر، قلت لنفسي إني لم أعرف من قبلُ أحداً يسمح له بأن يكتب شيئاً كهذا. ولقد بدأت بعدها على الفور بكتابة القصص القصيرة" (3).

الاغتراب عند كافكا
الخوف، التردد، القلق، عدم الإحساس بالأمان، الشعور باللامعنى.. كل هذه المشاعر تشكل معاً ملامح عالم كافكا الداخلي، وهي أيضاً أعراض الاغتراب النفسي الذي كان يعانيه.

ويُعزى هذا الاغتراب إلى حس كافكا الشاعري ويقظته الوجدانية، حيث "يرى نيتشه أنه كلما كانت أصالة الفرد أكثر عمقاً ازداد عمق اضطراره إلى الاغتراب عن مجتمعه؛ إذ يذكر أن أولئك الذين يمتلكون موهبة التعبير عما يعانون، تزداد معاناتهم عن الجموع الصامتة" (4). وأعراض الاغتراب واضحة جلية في أعمال كافكا وشخوصه، وهي بذرة نتاجه وإبداعه الأدبي، "… كل ما نجحت في تحقيقه ليس إلا نتاجاً للوحدة".

جزء كبير من اغتراب كافكا ينبع من أسرته، لا سيما والده الذي كانت علاقته به مضطربة جداً (سنتحدث عنها بالتفصيل لاحقاً). فقد هيَّأت له أسرته هذا الجو الاغترابي من خلال إرغامه على الانخراط في المجتمع الأوروبي؛ لضمان حياة كريمة له، ولكن لم تكن هذه الحياة تناسب كافكا. فالمجتمع الأوروبي آنذاك لم يكن مثالياً بالنسبة لشخص يهودي يتحدث باللغة الألمانية ويعيش في بلد التشيك، فإتقانه اللغة الألمانية عزله عن أبناء بلدته، وديانته اليهودية جعلت منه "منبوذاً" في نظر الألمان (5). "إنني أكرههم جميعاً، واحداً بعد الآخر"، هكذا عبَّر كافكا عن مشاعره تجاه أسرته.

ثمة منبع آخر لاغتراب كافكا وهو المجتمع؛ فقد كان دائماً ما يشعر بأنه دخيل رغم أن أسرته لعبت دوراً كبيراً في نشوء اغتراب كافكا النفسي، ولكن الدور الأكبر تلعبه طبيعة كافكا النفسية وحسه الشاعري المرهف. إن كافكا وُلد وهو يستنشق غبار الاغتراب، حيثما يكون سيشعر بأنه ليس في المكان الصحيح، حيث لا يوجد لمِثل كافكا مكان صحيح أو مناسب، فالاغتراب جزء من تكوينه النفسي وركن ثابت من أركانه (6).

رسالته إلى والده
علاقة كافكا بوالده كانت متدهورة، وقد كان لها الأثر الأكبر على حياة كافكا وشخصيته. كان هيرمان -والد كافكا- مثال الأب المتسلط، المستبد، ذي الأسلوب التربوي الجلف والتعامل الفظ، يحب بكرهٍ ويعطي أقل مما يأخذ. لا يعترف بحقوق أبنائه عليه، ولكن يعترف بواجباتهم نحوه، وأهم واجب عنده "طاعة أوامره" من دون جدال أو اعتراض حتى لو كانت تلك الأوامر تتعارض مع مصلحة أبنائه.

لم يكن كافكا يملك الشجاعة لمواجهة أبيه بظلمه واستبداده له، فكتب له رسالة يشرح فيها كيف تسبب أسلوبه في التربية في نشوء شرخ كبير بنفسه، وخلقَ فجوة هائلة بينه وبين والده.. يستهل كافكا رسالته بقوله: "سألتني مرة لماذا أدّعي أنني أخاف منك، ولم أعرف كالعادة أن أجيبك بشيء من طرفي بسبب هذا الخوف نفسه الذي أستشعره منك ومن طرفي؛ لأن تعليل هذا الخوف يتطلب تفاصيل أكثر مما أستطيع أن أجمعه إلى حد ما في الكلام".

نتاج كافكا الأدبي ثمار معاناته مع تسلُّط أبيه "كانت كتاباتي تدور حولك، والحق كنت أشكو فيها ما كنت لا أستطيع أن أشكوه على صدرك". طبيعة كافكا النفسية مغايرة لطبيعة أبيه، ويعزو البعض علاقة الكاتب السيئة بوالده إلى هذا الاختلاف، "كان كل منا يختلف عن الآخر، وفي هذا الاختلاف كان كل منا تهديداً للآخر".

فكافكا كان مرهفاً جداً، شديد الخوف والتردد على خلاف هيرمان، الوالد المتسلط القوي الجبار، وكان كل واحد منهما يتعامل مع الآخر بحسب سجيته وطبيعته. لقد كان هيرمان يعامل ابنه الهزيل الضعيف بقسوة سحقت بِنيته النفسية الهشة أصلاً.

يذكر كافكا في الرسالة موقفاً تعرض له وكان له أثر كبير بنفسه. في ليلة ما، بكى كافكا بصوت مزعج، مدّعياً أنه عطش والحقيقة هي أنه كان طفلاً، يجد في هذا الإزعاج تسلية ليس إلا، عندما سمع هيرمان صراخه اشتاط غضباً وقام بحمله إلى الشرفة، وظل كافكا هناك وحده فترة زمنية وجيزة مرتدياً ملابسه الداخلية فقط! "لقد أصبحت آنذاك مطيعاً بعد ذلك، لكنني أصبت بخلل داخلي".

كافكا لا يتهم أباه بالظلم والاستبداد المقصودَين؛ بل يرى أن المعضلة كلها تكمن في أسلوبه التربوي، الذي ظاهرُه القسوة والظلم وباطنُه حسن نية ومحبة، فهو كان يوجهه ويشجعه على سلك طريق قد تكون نافعة ولكن لشخص غير كافكا، فأسلوب هيرمان التربوي لا يتوافق مع طبيعة كافكا النفسية.

يشكو كافكا في رسالته من تهكم وسخرية والده منه، فقد كان يتهكم على أي شيء وأي أحد تربطه علاقة بابنه، فكان يشتم أشخاصاً مقربين إليه، ".. تكيل الشتائم والافتراءات والإهانات وكان على أناس أبرياء براءة الأطفال"، ويستخف بأي عمل يقوم به أو إنجاز يحققه، "عندما كنت أسعد بأمر ما، يملك على نفسي، فآتي إلى البيت وأتحدث عنه، فلا يكون الجواب إلا تنهيدة ساخرة" (7).

ترى كم "هيرمان" يوجد عندنا في الوطن العربي؟ أظن أن الإجابة تقديرية؛ نظراً إلى أن الرقم هائل. لعل السؤال الأهم هو: هل ينجب هيرمان عندنا كافكاوات؟ أعتقد أن كل أسرة عربية يوجد فيها هيرمان يوجد فيها على الأقل كافكا واحد.

***
المصادر:

(1) التجريب في القصة القصيرة: دراسة في قصة يوسف الشاروني، هيثم الحاج علي، الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، كتابات نقدية (105)، يوليو/تموز 2000م.
(2) محاكمة كافكا الأخرى: رسائل كافكا إلى فيليس، إلياس كانيتا، ترجمة: نعيمان عثمان، دار جداول للنشر والتوزيع، بيروت.
(3) مقابلة مع مجلة باريس ريفيو، 1981.
(4) الحمداني: الاغتراب، التمرد، قلق المستقبل، ص65.
(5) غارودي: واقعية بلا ضفاف، ص147.
(6) أمين: هل ينبغي إحراق كافكا؟ ص 68، و69.
(7) كتاب الآثار الكاملة، الأسرة (الجزء الأول)، رسالة إلى الوالد، ترجمة: إبراهيم وطفي، ص 603-630.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد