في تلك اللحظات التي أخذت فيها قراري وحزمت بها حقائبي استعداداً لمغادرة الوطن لم أكن أبداً أتوقع أنني وضعت بداخل تلك الحقائب تاريخي وذكرياتي من الحياة، لم يساورني الشك بأنني سوف أحزن وأتالم على فراق كل شيء عِشته، ولكن كنت أطمئن قلبي وروحي بأن العودة قريباً، وأنا الطريق إلى الوطن سالك بسهولة متى أريد، وإنني سوف أجده دائماً مرحباً وكأنني ما ودعته يوماً ينتظرني بشوق مثل شوقي له وأكثر، وأن أصدقائي ما زالوا هناك ينتظرونني في نفس الأزقة والحارات على نفس المقاعد التي اعتدنا عليها السهر، ونعود ونمشي في نفس الطرقات، ونأكل على نفس الموائد، وأن كل شيء كما هو لم يتغير كما تركته قبل أن أغادر، ظننت أن صحبة السنين لا تنسى بتلك السهولة، وأنها تحفر في عمقنا وذاكرتنا متل النقش على الحجر، وأن تلك الموائد التي تشاركنا عليها أفراحنا ما زالت قائمة، وأن النفوس ما زالت تهوى الأرواح رغم الغياب والسفر.
إلا أن واقع الحياة يوقظك من أحلامك، أحلام الطفولة والمراهقة. ففي غيابك يبقى صندوق رسائلك فارغاً حتى من التحية إلا ممن صدقك وعده بالبقاء على عهد الصداقة وتنسى كأنك لم تكن، يصدمك النسيان بل يصعقك الواقع بأنك بعد كل هذه السنين عدت وحيداً تبحث عن رفيق جديد يحمل معك الراية لمواجهة صعوبات الحياة والهروب من الصدمة التي أنت فيها، فذاكرتك التي لا ترحم، تجلدك يومياً لتوقظك وتريك كل أيامك، وتعيد إليك صورة كل وجه عرفته، أو نبرت صوت سمعتها كانوا أمواتاً أو أحياء والذين هم ما زالوا في حنايا القلب قابعين يستوطنون الذاكرة.
وأنت في غربتك تصارع نفسك بين ثقافة جديدة ومجتمع جديد ولغة لم تعرفها من قبل وعادات ليست عاداتك وحياة ليست حياتك وعلاقاتك الاجتماعية التي تفرض عليك ولا تختارها كما تشاء، وأنت الذي خسرت ذلك الخيار الذي كنت تمتلكه في الوطن في اختيار تطابق الأفكار والاهتمامات والعادات والأرواح.
وتجد نفسك محاطاً بخيارين: الأول أن تتقوقع على ذاتك وحيداً تصارع نفسك تحاول لملمة بقاياك تحمي هويتك وتحافظ على شخصيتك متأملاً في العودة إلى الوطن الساكن ذاكرتك وأحلامك في القريب العاجل، وفي قلبك الشوق لأصدقائك لأهلك لأحبابك وتحاول التمرد على ذكرياتك وتلوم نفسك، لماذا رحلت وتخليت عن الحياة والفرح؟ وتذكر نفسك بأنك يوم رحلت كنت متنازلاً بكبريائك المهزوم عن كل شيء، وأنت اخترت الرحيل.
وخيارك الثاني هو الخيار المفروض عليك في غربتك المرة التي يكون من النادر حدوث الصداقات بها، والتي يمكن أن تشعرك أنك في الوطن وفي مكان لا خيار لك به لانتقاء من علاقاتك ما يناسبك ويحترم شخصيتك ويطابق أفكارك، كوقوفك عارياً مفروضاً عليك ارتداء ما تراه أمامك فقط، لا ما يناسبك حتماً.. قد يكون هذا الرداء متناسقاً مع جسدك المتعب يقيك صقيع الغربة، أو قد يكون فضفاضاً يخترق ثقوبه صقيع الغربة متوغلاً لبقايا روحك الجليدية المشاعر.
لم تكن مشاعري يوماً ترتدي هذا الصقيع.. أنا المشتعل بالعاطفة.. المتّقِد كعاصفة… لا يقيدني اتجاه.. غالباً ما كنت متسرعاً في عواطفي.. أنا السهل الاختراق.. لكن أيضاً عندما تخرج عن دائرة وطنك تتغير.. تتبدل.. تتحول.
ذلك القلب يوصد.. تلك الروح المخترقة ترتفع أسوارها معلنة الحرب لكل مقترب وكل مغترب.. وكلنا سواء.
أوجاع الغربة واحدة للمكتفي.. ذلك الشخص الذي كان يملك كل شيء في وطنه.. مادياً.. نفسياً.. عاطفياً.. جسدياً وفجأة فقد كل شيء وفقد معه سكون روحه فأصبحت تلك الروح لاهثة.. تائهة.. تبحث عن السكن… لا يعنيها بذخ الطبيعة.. ليس من ضمن دائرة اهتماماتها المساواة.. الأمان.. لا يخترق هدوء المارة ضجيج الذاكرة فيّسكنها.. أنت في اللحظة التي حزمت فيها حقائبك عن الوطن لتغادر كان عليك أن ترحل وحدك بدون حقيبة مليئة بالذكريات.
باختصار عليك أن تتخلى عن الحقيبة التي تحني ظهرك فلا تجعلك واقفاً باستقامة تمنعك من النظر للأمام.. تمنعك من رؤية ذلك الثقب المنبعث نوراً، تتوغل لروحك لتدفئ صقيع الغربة وتذيب الجليد وتُعيدك مشتعلاً نابضاً بالحياة كما كنت.
يا صديقي أنت هنا في الغربة.. لطفاً دع عنك الحقيبة وامضِ.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.