كنت أتحدث مرة إلى إحداهن، وفي منتصف الحديث تعرضت لسيرة شخصية كانت تعرفها قديماً، بينهما عِشرة ليست بالبسيطة، والكثير من الخبرات المشتركة. توالت الأحداث وحصل أن اختلفت الشخصيتان ودبّ بينهما الخلاف، وشيئاً فشيئاً تحول الخلاف إلى قطيعة من طرف واحد. عندما تتحدث تلك الفتاة الآن عن معرفتها السابقة بهذه الشخصية، تتحدث بالكثير من الغضب والقليل من العتب، الكثير من "لقد فعلتُ كذا وكذا وكذا وفي النهاية كان جزائي كذا". بدا لي وأنا أستمع إليها أنني أستشعر الكثير من المحبة الموؤودة، محبة كان لها أن تتجاوز الخلافات وتصل إلى حل وسط يمنعها من اتخاذ قرار المقاطعة هذا، ولكنها اختارت مع سبق الإصرار أن تتبع "الكتالوج" الذي يقول بأن عليها أن تلتزم بموقفها حفاظاً على كرامتها التي لا شأن لها بالموضوع من الأصل، وحتى لا يُداس لها على طرف، وحتى لا يستمرئ الآخرون أذيتها، وإلى آخر ذلك من نصائح أسميها نصائح العقارب، تلدغ الصلات بين الناس فلا تبقي فيها سوى الكثير من المرارة.
هناك حديث أثّر كثيراً فيّ أثناء مراهقتي وما بعدها، وهو حديث آيات المنافق: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ".
كان من المرعب بالنسبة لي أن أتصف بشيء من صفات المنافقين، وكان الكذب أكثر الأشياء وضوحاً، حتى إنني أذكر عدد المشاكل التي وقعت فيها لأنني اعتبرت المجاملة نوعاً من الكذب، فبِتُّ أغدق على الناس بآرائي الصادقة "كالمدَب"، وكانت تلك مرحلة الغشومة المستفحلة التي ما زلتُ حتى الآن أحاول السيطرة عليها. خيانة الأمانة والغدر لم تكن واردة في احتمالاتي، وأرجو ألا أكون قد ارتكبت شيئاً منها دون انتباه مني. أما الفُجر عند الخصام فهو أمر صعب التفريق فيه بين رغبتنا في اتباع أهوائنا، واتباع نماذج العلاقات التي تحيط بنا، وبين تزكية أنفسنا. لذلك فهي من الخصال التي تستوجب الكثير من الانتباه والتأمل.
والخصام الوارد في النص إذا قرأت الشروح، وجدته يدور بصورة أساسية حول خصومة الناس أمام القضاء، فيكون الفجر في أن يمنع أحدهم الحق وهو يعلم، أو أن يساند الباطل حتى يبدو أنه الحق وهو يعلم. ولكن الناس تفعل هذا طوال الوقت دون وجود قاضٍ ولا محكمة؛ فيختصمون فيما بينهم، ويجور أحدهم على الآخر ويعتقد أنه صاحب الحق الذي يتوجب على غيره أن يرضيه، ويزيد ويوغل في الخصام فيبدأ بالإساءة لمن له معه خلاف، ويعدد مثالبه، وينكر أفضاله وكأن لم يرَ منه خيراً قط. وقد لا يكون الأمر عن سابق قصد وقد يكون، ولكن في كل الأحول فقد تحولت القضية إلى أزمة أخلاقية بالدرجة الأولى. فالأمر تجاوز المطالبة بالحق إلى الظلم بحجة المظلومية، بكلمات أخرى أصبح الإحساس بالظلم طريقة لتبرير ظلم ربما يكون أعظم وأشد ضرراً.
قرأت لابن حزم في طوق الحمامة قولاً في علامات المحبين أنقله هنا: "فنجد المحبين إذا تكافيا في المحبة وتأكدت بينهما تأكداً شديداً، أكثر بهما جدّهما بغير معنى، وتضادهما في القول تعمداً، وخروج بعضهما على بعض في كل يسير من الأمور، وتتبع كل منهما لفظة تقع من صاحبه وتأولها على غير معناها، كل هذه تجربة ليبدو ما يعتقده كل واحد منهما في صاحبه. والفرق بين هذا وبين حقيقة الهجرة والمضادة المتولدة عن الشحناء ومخارجة التشاجر سرعة الرضى، فإنك بينما ترى المحبين قد بلغا الغاية من الاختلاف الذي لا يقدر يصلح عند الساكن النفس السالم من الأحقاد في الزمن الطويل ولا ينجبر عند الحقود أبداً، فلا تلبث أن تراهما قد عادا إلى أجمل الصحبة، وأهدرت المعاتبة، وسقط الخلاف وانصرفا في ذلك الحين بعينه إلى المضاحكة والمداعبة، هكذا في الوقت الواحد مراراً. وإذا رأيت هذا من اثنين فلا يخالجك شك ولا يدخلنك ريب البتة ولا تتمارى في أن بينهما سراً من الحب دفينا، واقطع فيه قطع من لا يصرفه عنه صارف. ودونكها تجربة صحيحة وخبرة صادقة. هذا لا يكون إلا عن تكلف في المودة وائتلاف صحيح، وقد رأيته كثيراً".
وكانت هذه من أكثر النصوص التي علقت معي من طوق الحمامة، ذلك أنها تتحدث عما أسماه "تكلّف المودة، والائتلاف الصحيح". وهي أمور لا تحدث دون سابق جهد، ولا تظهر بين الناس دون أن يكون كل طرف قد اتخذ لها درباً يسلكه إليها. فلا يدع باباً للوصل يمكن أن يُطرق إلا طرقه، ولا يجد سبيلاً للصلح إلى سلكه. ولهذا فإنه من الصعب أن تتحقق المودة وتصح الألفة دون أن يسبقها صراع طويل مع النفس، يزكيها ويرتقي بها عن سلوك المستجدين الذين تأخذهم الأهواء حيث شاءت، فلا يُبقون على أحد، ولا يصبرون على عشرة.
لذلك فإن الناس إذا اتفقت على محبة يخرج منها كل عذول وكل غريب، وصحبة تخلو من المصلحة الآنية، وجب أن يتفقوا كذلك على خصومة تخلو من فجُر يقطع أوصالها بمعايرة مهينة، أو كبرياء زائف، أو رغبة دفينة في إثبات العلو على الآخر. نحن الآن نرى الناس يعيشون علاقات حربية، لا علاقات عاطفية كما يسمونها، يخوضونها كل يوم في محاولة لإثبات أن فلانة تحبني، وفلان حريص على صحبتي، وكيف أختبر زوجي في محبته، وكيف تثبت لي زوجتي إخلاصها، وكيف أتأكد من إخلاص أخي، وكيف أعرف صدق مشاعر رفيقتي، وكأننا نعيش في ساحة معركة، نتفادى فيها الهزائم بأن نلحقها بالآخرين أولاً. فنؤذيهم ثم نقول إذا زهدوا: هم من باعونا ولم يبقوا علينا. يتربص بنا الناس ونتربص بهم، وبدلاً من بذل الجهد لإذابة الجليد ورفع الكلفة، نبحث عن كل طريقة لنصعّب العملية على الجميع بالاستغراق في خصام نعتقد أنه الوسيلة الوحيدة للتحقق من صدق المشاعر.
خصامُ المحبين إذاً لا فُجرَ فيه، ولكنه أيضاً لا ينبت وحده في الفراغ، خصام نتعلم كيف نروّضه، ولا نتركه حتى يعلمنا كيف نتوحَّش.
هذه التدوينة منشورة على موقع مدونات الجزيرة
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.