تقتضي الرسالة الإنسانية للطب والعامل في المجال الصحي أن يطيل عمر الإنسان، وعليه يدرس أحياناً 10 أعوام أو أكثر فقط؛ للحصول على الماجستير في أحد التخصصات، وبعد كل ذلك وبجرّة قلم من سياسي أو عسكري ينسف كل هذه الجهود، لتحل لعنة الموت الجماعي على منطقة كانت الحياة يوماً تنسج فيها أجمل خيوط الأمل والتفاؤل ويرتاح على كتف سواقيها أكثر المنهكين من متاعب الحرب، كما حصل في سوريا وغيرها من الدول العربية، التي تحولت إلى جحيم عملت فيها الآلة العسكرية فتكاً بالأخضر واليابس.
وهو ما سبَّب زهد الكوادر الطبية في قضيتهم، وربما نأى البعض بنفسه، لرؤية في نفسه أنه لم يعد هناك فسحة زمانية لأكمل دربي في هذه البقاع، فهاجر إلى حيث السلام الذي يرتأيه، ولتطوير نفسه في أمكنة وجامعات لطالما حلم من خلال الأبحاث والمحاضرات والكتب أن يزورها أو أن يكون ضمن كوادرها.
ولكن، لا يبدو أن هناك نية، في الوقت القريب، لجعل هذه المنطقة خالية من الحروب؛ فالمنطقة العربية تشكل 5 في المائة من سكان العالم، وحصتها من اللاجئين 50 في المائة، وحصتها السوقية 60 في المائة من صفقات الأسلحة.
وهكذا، فالمستقبل بمعطياته الحالية يميل إلى مستقبل واعد بالحروب والتصفيات، وعلى التوازي نجد أن المناهج الطبية في الوطن العربي لا تتجه الى تعليم طب الحروب والكوارث، وحمَلة الماجستير في هذا التخصص من العرب يعدّون على الأصابع، وهم متمركزون في منطقة الخليج، ممن تم إيفادهم مسبقاً إلى دول مثل أميركا لنيل هذا العلم بشكل أكاديمي.
فأميركا التي تحتل العالم بـ700 قاعدة عسكرية حول العالم، وتنعم داخلياً بسلام، تدرّس طب الكوارث، بعد أن دعت الحاجة إليه في حرب فيتنام، في حين أن الدول العربية التي ترزح تحت وطأة القصف لا توجد جامعة تدرّس هذا العلم؛ بل يتم الاكتفاء بيوم علمي يتم التجهيز له خلال أشهر سابقة، لتتم مناقشة أطروحاته في فندق 5 نجوم، يُعده أشخاص بعيدون كل البعد عن الحروب ولحظات إسعاف جرحى من تحت أنقاض القصف، وبعد المؤتمر يتم تجميع الأبحاث في كتاب يوزَّع على الأعضاء، وهكذا دواليك.
فمعظم من يتحدث بهذا المجال هم ممن تخصصوا في طب الطوارئ ومن يتعاملون مع حالات فردية تأتي إلى المشفى، أو ممن تخصصوا فيما يسمى طب الحشود، الذي تنحصر مهمته في أيام الحج، حيث يتعامل مع حالات الاختناق أو التدافع بين الحجيج، وكل هذه الحالات لا يوجد فيها نقص في الكوادر الطبية أو المعدات أو الفرق المساندة أو عنصر المفاجأة من حيث وقع الحادثة أو نوعها.
وهو ما يحدد طب الكوارث والحروب، فسقوط طائرة مدنية في منطقة لا يُعتبر كارثة، حيث يمكن وصول الفرق الطبية إلى المكان، والتعامل مع الموضوع متاح، لكن ماذا عن الغوطة في دمشق عنما تم الهجوم بالكيماوي وكان الناس يسعفون بالماء الذي يُرمى على المصابين، ويسبَّب هذا الجهل بالتصرف في موت العديد من المصابين والمسعفين؟!
هنا، يلزم كوادر طبية وغيرها مدرَّبة على التعامل مع الحالة، وكذلك الأمر عندما يكون لدينا أناس تحت الأنقاض جراء قصفٍ لا نعرف هل سينتهي أم ربما بعد أن يتجمع الناس للإسعاف يُقصَف المكان مرة أخرى؟ وهل يجب أن نسعف عشوائياً أو نهتم بالإعلام وتصوير الحادثة وترك الناس تموت كما حصل في إحدى المرات بسوريا، حيث قام الموجودون بالفزعة لتوثيق القصف بالكاميرا، متجاهلين صرخات وأنين الجرحى كما حدث في الأتارب قبل أشهر؟!
يبدأ عمل طب الكوارث والحروب قبل وقوع أي حادثة، من حيث تعلُّم مهارات أخرى إلى جانب المعلومات الطبية؛ مثل القيادة والإحصاء وتنظيم الإمكانات وإحصائها، حيث يجب أن يكون هناك تنسيق بين أكثر من وحدة تتبع لأكثر من جهة أو وزارة، بحيث يتم تنسيق العمل فيما بينها عند حدوث الواقعة؛ مثل: تنظيم الناس في أرض الواقعة، وفرز المصابين حسب درجة الإصابة وخطورتها، والبدء بنقل هذه الإصابات بشكل صحيح، وإرسال كل حالة إلى المشفى أو النقطة الطبية المناسبة، فمن غير المعقول إرسال مريض حروق إلى نقطة طبية لا يوجد فيها قسم يتعامل مع مثل هذه الحالة.
هذه الأمور بحذافيرها، موجودة بين طيات الكتب، وبعضها أصبح متوافراً بترجمات عربية أو من خلال برامج تلفزيونية أو صفحات على الإنترنت، ولكن المطلوب الآن من الباحثين عن تخصصات سيعملون بها في دولهم، الاهتمام أكثر بطب الكوارث والحروب فلا ندري من التالي، وعندما يأتي دور التالي لن يكون هناك صوت غير صوت الحرب.
وتخصصات دقيقة مثل طفل الأنبوب والبيولوجيا الجزئية وزرع الأعضاء والتجميل لن يكون لها دور كبير؛ لأن الوضع آنذاك سيصبح بحاجة للقراءة في تاريخ الطب، حيث سيعود للظهور حالات لم نكن نسمع عنها إلا في تلك النوعيات من الكتب التي تحكي عن تاريخ أمراض زالت؛ ففي سوريا مثلاً، عُدنا إلى الوراء من حيث المناعة، فبدأت تظهر فيروسات تم القضاء عليها منذ زمن بعيد، وفي اليمن عادت الكوليرا.
وأيضاً، على منظمات المجتمع المدني المهتمة بالقطاع الطبي المحلية التركيز أكثر على حوكمة هذا الطب ونشره، والاستفادة من الخبرات التي أصبحت متراكمة لدى السوريين والليبيين واليمنيين والفلسطينيين والعراقيين والكويتيين أيضاً، حيث إنني -ومن خلال البحث- وجدت أن أفضل تطبيق لخطط إدارة الأزمات الطبية تم في مستشفيات غزة في أثناء القصف الإسرائيلي، وكانت هناك دراسات وأبحاث تبيّن بالرقم الدقيق مدى نجاح تطبيق هذه الخطط والاستفادة من التجربة وتطويرها، لكن ماذا إن لم يعد هناك مشافٍ؟ هذا السؤال يستطيع الإجابة عنه الليبيون والسوريون واليمنيون، وماذا عن الفوضى التي تحدث بعد ذلك؟
سأجيبك أنا عن الفوضى: حيث بدأنا نشاهد أشخاصاً اضطرتهم الظروف إلى البقاء في حصار تعلَّموا من خلاله زرق الإبر، أو إعطاء السوائل الوريدية، أو مساعدة الغير في خياطة جرح أو غيره، أو إناث اضطررن إلى توليد النساء، بعض هؤلاء عندما أُتيحت لهم الفرصة بعد ذلك بدأوا -وخاصة في المناطق التي انخفضت فيها سيطرة الدولة- ممارسة الأعمال الطبية من دون قاعدة علمية، ومن دون خوف فلا رقيب سيحاسِب.
بينما ينظم طب الحروب والكوارث كل هذه الأمور؛ فهو يحدد المهام التنفيذية للمسعف، وعنصر الدفاع المدني والممرض والطبيب ومتخصص (إدارة الكوارث)، فهذا المصطلح (إدارة الكوارث) أولي اهتماماً كثيراً بالمجمل دون تفريق للمهام والسطات التنفيذية، وضم تحت مظلته العديد من الاختصاصيين، وخرج الكثيرون ممن يتحدثون عن الكارثة والتعافي بعد الكارثة وإعادة الإعمار والبناء. لكن، لم يقدم حلولاً لاستيعاب كل هذه الفوضى تحت أطر قانونية تحاسب المقصر وتعطي المجتهد حقه.
وهذا يقع على عاتق أبناء المنطقة والوطن الواحد، لكي يبنوا نظاماً جديداً لا يبخس حقَ مجتهدٍ، ويعتمد على عنصر الوفاء لمن ضحَّى بوقته وجهده لإسعاف الناس بأي طريقة، وأن يخصَّص يوم من أيام السنة لمن قضوا نحبهم في هذا الطريق، فالوفاء للأعمال هو إكسير يُبَلْسِم حرقات قلوب طال غياب النور عنها من هول الحرب، ودواء لتسكين هيجان ليلِ من فُقدوا.
وفي النهاية، أقول كما هو عنوان التدوينة العاشرة لي في سلسلة (داوني): تعلَّموا طب الكوارث والحروب فلا ندري من التالي؟