المُربَّى غالي

"المربّى غالي" وصار من الصعب العثور عليه، وليت هذا المجتمع المسلم الذي نعيش فيه ويقطّعنا يوماً تلو الآخر ربّى وأحسن التربية، لو أنّ هذا المجتمع أدّب وأحسن التأديب لما عانى من جور حاكم ومسؤول وطغيان آفة.

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/06 الساعة 01:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/06 الساعة 01:39 بتوقيت غرينتش

هل حدث وأن حوّلت جملة عابرة سمعتها في شارع أو في جلسة أو في فيلم ما شريطاً لا تكاد الذاكرة تدوس على زرّ إيقافه أو حتى توقيفه لدى حدث معيّن في حياتك أو موقف محدّد تمرّ به؟

هل سبق أن بنيت قراراً عن اقتناع تام صدفة جرّاء ذلك؟ هل سبق أن تعلّمت شيئاً جديداً من عبارة تبدو عادية، ربمّا قيلت في سياق فكاهة فتُهت فيها، وربما عرضت في قالب معاكس لتلك النفسية التي جلست بها تشاهد التلفاز مثلاً فوجدتها تعني الكثير؟

هل جرّبت أن تدخل فيلما ضاحكاً فتخرج منه محطّماً، أن تدخله فيدْخُلَك ويُدْخِلك في عالم ما؟ هل جرّبت أن تسمع بضع كلمات متناثرة في الأجواء ومجموعة حروف عابرة سبيلاً في الأرجاء، مبعثرة هنا وهناك صدفة فتشتّتك وتستجمعك لتحدّد مصيراً، قراراً، موقفاً ما كنت بصدد إحالته إلى محكمة نفسك لتفصل فيه؟

هل جرّبت الكتابة بعد أن أصبت بكلمة في الفكر رماها أحدهم عليك؟

أمّا أنا فجرّبت، وكلّما جلست في مجالس العجائز الغابرة أرتشف معهن ذكرياتهنّ الجميلة تارةً وأضحك حتى الثمالة تارةً أخرى، كلما تشرّفت بمعرفة الحياة، فلا أقوم إلّا وسلّة أفكاري أمامي وقد انتصفت بتلك الأمثال والحكايات والأغاني التي لا أحفظ منها سوى المعاني.

يذوب ذلك اليوم وتتلاشى صورهنّ وأظلّ في فراشي تقلّبني تلك المفاهيم التي مكثت فيّ.

وكلّما أتممت فيلماً، كلّما خرجت بمقولة يتردّد صداها في ضواحي خاطري كمقولة "المربّى غالي"، وأحيانا أفوز منها بمعنى أجد نفسي أصوغه بما تيسّر من حروفي.

وأذكر أنّني شاهدت أشرطة غربيّة تركت في نفسي الكثير من المعاني والقيم الإنسانية الراقية، جعلتني أتحدثّ في نفسي قائلة: "الرجولة لا دين لها"، وكثيراً ما أرى مظاهر للمروءة داخل مجتمعات لطالما هاجمناها باللعن والشتم فإذا بها تتفوق على مجتمعنا في أخلاق، وكيف لا تتفوق وقد تركنا الإسلام وتعاليمه خلفنا ورحنا نقتات من قشور غيرنا؟ إنّنا بالفعل نفتقد حضور أخلاق المسلم اليوميّ بيننا في هذا الزمن الذي شغلتنا فيه السياسة عن أخلاق المجتمع وتربية أطفالنا، فشرعنا نندّد بأخلاق الحاكم والوزير بينما لو تمعّنا من حولنا، وسط أحيائنا وربّما داخل أسرنا لوجدنا الفساد يتدفق تدفقا منها، أبسط مثال أنّنا لا نجرؤ حتى على جمع أوساخنا ومزابلنا الفائضة في الأزقّة عادة لولا عامل النظافة الكريم الذي تسخّره لنا البلديّة.

"المربّى غالي" ظلّت تحوم حول أفكاري المبعثرة لأيّام وجاءت مباشرة بعد حمامة "الرجولة لا دين لها" التي بقت تتحرّش بقلمي وتحرّض أفكاري على الكتابة في هذا الموضوع، إلّا أنّني لم أكد أكتب حتى زارتني مقولة ألبير كامو "رجل بلا أخلاق هو وحش تمّ إطلاقه على هذا العالم"، وتذكّرت قصيدة الرصافي: "وأخلاق الوليد تقاس حسناً بأخلاق النساء الوالدات"، وقوله: "ولم أرَ للخلائق من محلّ يهذّبها كحضن الأمّهات" إلى أن وصل إلى قوله: "فكيف نظنّ بالأبناء خيراً إذا نشأوا بحضن الجاهلات".

حقّاً "المربى غالي" ورحم الله حافظ إبراهيم إذ قال: "الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيّب الأعراق".

لا أكاد أختم يوماً إلّا وأنهيته مسمومة من الجدل القائم بين الرجل والمرأة، خاصة إذا أقحم فيه عنصر الثقافة.

في حياتي لم أكن أتصوّر أنّ العالم ضيّق إلى هذا الحدّ، لقد كنت على مدى العمر أرى أن المشكلة ليست في مثقّف ومثقّفة ومتعلّم ومتعلّمة بقدر ما كنت أرى أن المشكلة تكمن في ثنائية متخلّق متخلّقة، فكم من مثقّف ومثقّفة بالمعنى الذي وضعوه وكم من متعلّم ومتعلّمة قابلتهم في حياتي لم يتركوا في ذاكرتي سوى الخيبة والأسف، كوني أؤمن أن التثقف ليس لقباً يقتنيه المرء من درجات تعليمه وسلّم شهاداته وقراءاته ومؤلفاته بل هو ناتج مجموع الخلق والقيم والعلم والفهم والصلاح والإصلاح.

ولا ننسَ أن أصل كلمة ثقافة العربي يعني الفطنة والتسوية وفي أصلها الغربي تعني الزراعة أي إنها تُعنى بكل ما من شأنه زراعة الأشياء التي تغذّي الإنسان وتطوّره لا تؤخره، لكنّنا يوماً بعد يوم نشهد هذا التأخر في مجتمعاتنا التي فاضت بالمثقّفين والمثقّفات والآفات وصارت وزارات الثقافة أكبر عدوّ فيها للأخلاق، فكيف بالله عليكم يجتمع مفهوم التهذيب والتسوية الذي تعرّف به الثقافة مع واقع الانحطاط الذي آل إليه مجتمع يطلق على جلّ أفراده كلمة "مثقفون" ثقافتهم تنعكس في لباس متفجّر وأكل مسرف وكلام فارغ، لم يقرأوا عن سقراط قوله: "التربية الخلقية أهمّ للإنسان من خبزه وثوبه".

إنني أعرف مثقّفين ومثقّفات بالمعنى الذي وضعوه يجهلون وجه القِبلة ويطلقون صواريخ الكلام الفاحش بإبداع، إنني أعرف طائفة من المثقفين الذين يتحرشون بالطالبات في الجامعات وطائفة من المثقفين الذين لا يغادرهم يوم إلّا وقد شبعوا فيه من الأفلام الإباحية والنساء والخمور، وإنني لأعرف طائفة من المثقفات اللواتي يشاطرنهن أسلوب العيش هذا، فأيّ ثقافة هي هذه التي لم تصقل بالأخلاق؟ وإنّي لأحتار حقّ الحيرة في عبارات الفحش التي يصمّمونها بلفظ الجلالة.

"المربّى غالي" وصار من الصعب العثور عليه، وليت هذا المجتمع المسلم الذي نعيش فيه ويقطّعنا يوماً تلو الآخر ربّى وأحسن التربية، لو أنّ هذا المجتمع أدّب وأحسن التأديب لما عانى من جور حاكم ومسؤول وطغيان آفة.

لو أن تلك العائلات التي تداولت المثل القائل: "العيب في المرأة وليس في الرجل" أنصفت في تربيتها لما عانينا من تمرّد كهذا الذي نشاهده يومياً في شوارعنا العريضة وأزقتنا الضيقة.

كم مرّة حاسبت نفسها على تربيتها حين صدّرت للمجتمع أشخاصاً ممنوعين من وصف الحرف، تارةً نطلق عليهم لفظ ذكر وتارة يفلت اللسان فنقول رجلاً ولا ينطبق عليهم مفهوم الرجل بمعنى الرجولة والمروءة والأخلاق، وفتاة بلا أخلاق تتردد في تسميتها امرأة أو حتى أنثى همّها في الحياة الحفلات والأزياء وعمليات التجميل والعلاقات الغرامية أو الزواج بمن تسميه "المهمّ أنه رجل أو بالأحرى ذكر" ليقال تزوّجت!

كم مرّة حاسب هذا المجتمع المسلم نفسه على لفظ الجلالة الذي صار يدرج في كافة أنواع السبّ والكلام الفاحش الخطير؟!

كم مرّة حاسب نفسه على تلك العنصرية التي ورّثها لأجياله؟! وكم مرّة حاسب نفسه على صلاته، على علاقاته، على إخلاصه، على نظافته وزكاته وإيثاره؟

إنني لأتأسّف على مجتمع يسبّ فيه مخلوق الخالق حين يغضب ليُقال شهم، إنني أتأسّف على مجتمع لا المدرسة فيه مدرسة ولا الجامعة فيه جامعة، إلّا ما ومن رحم ربّي.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد