لماذا نأخذ ما يبث على وسائل الإعلام وما ترتوي به وسائط التواصل الاجتماعي كالحقائق، ومسلّمات، والجميع يبدأ حملة المناقشة في التفاصيل ويهملون الجزء الأهم وهو المتعلق بحقيقة ما نستقبله من أخبار وصور وأفلام تحاكي الواقع؟ كيف نتأكد من مصداقية هذه المحتويات؟ وهل تعكس فعلاً ما يحدث في الواقع دون تشويش؟
في الغالب لا تقدم وسائل الإعلام الأخبار كما حدثت فعلاً، ولن تفعل ذلك، فكل المحتويات تكون تحت طائلة الإخضاع، التكييف، الأدلجة؛ لأن مهمة وسائل الإعلام هي صناعة الواقع الموازي بكل ما يكتنفه من معانٍ ورموز وأبطال وقيم بحيث يكون قادراً على ردع الواقع الأصلي، نحن لا نتفاعل مع الأحداث والوقائع، بل نتفاعل مع ما تصنعه الشاشة ويقرره رواد وسائط التواصل الافتراضيون، إنه الواقع الموازي، البديل والمثير والأكثر جنوناً والأقل تكلفةً والأشد فتكاً بقدرات المتلقي على التحليل والنقد.
أنت أمام واقع يستطيع تحييد العقل وتهييج العاطفة والغريزة وتشكيل الجماعات البشرية بطريقة تكون فيها المثيرات أقوى والاستجابة مضمونة، إنها قضية وسائل الإعلام الأساسية التي قام عليها دورها الوظيفي هي السيطرة على الجماعات وضمان ولائها وكانت الدعاية والتضليل الطرق الأكثر إبهاراً على الإطلاق.
يشير الناقد السياسي نعوم تشومسكي إلى أول عملية تضليل في العصر الحديث كانت بعد انتخاب الرئيس الأميركي وودرو ويلسون عام 1916، وقد بدا أن الولايات المتحدة بعيدة كل البعد عن تأثيرات الحرب العالمية الأولى، وأنه لا ضرورة للارتماء والتورط في غمارها، كان الشعب الأميركي مسالماً جداً لا يرى للحرب داعياً ولكن الإدارة الأميركية تربطها مسؤوليات استراتيجية تجاه الحلفاء، ولهذا تم تأسيس لجنة كريل وهي لجنة للدعاية الحكومية مهمتها الأساسية ضمان دعم الرأي العام الأميركي قرار الدخول في حرب ضد ألمانيا، وهو الأمر الذي تحقق بعد ستة أشهر وبدا الشعب الأميركي أكثر حماساً واندفاعاً لسحق كل ما هو ألماني، إنه إنجاز هائل أدى إلى إنجازات أخرى متتالية في الصراع الأميركي ضد الشيوعية تكرر الأمر كثيراً، يقول نعوم تشومسكي.
إننا نقف أمام التوظيف الجيد لوسائل الإعلام في دهشة حادة، ونحن نراها تسوس في مرحلة ما الرأي العام كما يسوس الراعي القطيع، لا بد أننا نتذكر أن أهم الأسلحة التي ارتكزت عليها النازية في خطف الشعب الألماني بعيداً وشحذه في مواجهة ذاته والاصطدام بأوروبا والإنسانية جمعاء كانت وسائل الإعلام، الإذاعة، التلفزيون، وساحر الدعاية الأشرس جوزيف غوبلز، الإعلام يقود الجمهور إلى حتفه وربما يقوده إلى الاحتراق والانسحاق، وهو يعتقد أنه يصنع مجداً أنها أساليب القمع والقهر كما يصفها باولو فرير، واغتصاب الجماهير بتعبير سيرج تشاخوتين، لا تزال الجماهير هاجساً أسود يرمي بظله الثقيل على النخب والسلطة منذ الثورة الفرنسية التي أعلنت ميلاد الرأي العام كقوة عنيفة غير عاقلة هوجاء لا تؤمن إلا بالتغيير الشامل والاجتثاث؛ لهذا سخرت دراسات علم الاجتماع من أجل فهم النفسية الجماعية وإيجاد آلية السيطرة، إن الجماهير في نظر غابرييل تارد مجرمة بطبيعتها ومدمرة وتحتاج إلى قائد محرك يفرض نفسه عليها بالقوة حسب غوستاف لوبون، وليس هناك قائد يستطيع تثبيت ولائها وقمعها والسيطرة عليها من منظور هارولد لاسويل إلا وسائل الإعلام والدعاية.
يفتتح عبد الله الغذامي كتابه الثقافة التلفزيونية بعرض تمثيلي للقوة التي تتمتع بها الشاشة والصورة من خلال استضافته لأحداث الفيلم الكوميدي أن تكون هناك، للمثل البريطاني بيتر سيلرز، والذي يؤدي دور جنايني يعمل في قصر ولا يرتبط بهذا الكون إلا من خلال التلفزيون؛ حيث يقضي كل وقته في مشاهدته، وفي لحظة تتغير أشياء كثيرة فيموت صاحب القصر، ويقذف به الورثة إلى الشارع، إلى العالم الواقعي الذي كان يتفاعل معه من خلال الصورة التي تبثها الشاشة، وفي كل مرة كان بإمكانه تغيير الصورة إن لم تعجبه عبر جهاز التحكم، إنه يتجول الآن هائماً على وجهه في شوارع نيويورك، يعترضه بعض السكارى والمجرمين، فأخرج جهاز التحكم وبدأ يعبث به محاولاً التخلص من وحشية الصورة التي يشاهدها. إن هناك فاصلاً كبيراً بين واقع الصورة التي تصنع لنا في التلفزيون وبين تلك التي نصدم بها في واقعنا، لا يجب أن نستكين، فالتلفزيون مخادع كبير؛ لأنه يخاطب الطبيعة فينا، إنها الحواس، فيتوارى العقل بعيداً.
لهذا يصنف مارشال ماكلوهان السينما والتلفزيون بوسائل إعلام حارة؛ لأنها تزود المتلقي بعناصر إخبارية كثيرة، وتمده بعدد من القوانين والشفرات المساعدة في فك الرموز والدلالات التي تساعده في فك الرموز وتعفيه من التخريجات والتأويلات التي قد يضيع فيها، ولكنها من جانب آخر تهيمن عليه وترسم له حدود الإدراك والوعي الذي يتحرك فيه، فهي صورة من صور السلطة والتبني التي تلغي ذات المتلقي، وتحل محلها ذات القائم بالاتصال في التلفزيون.
إن التلفزيون خادم مطيع وسيد سيئ، يقول ستيفن كوفي في كتاب العادات السبع.
إن الولايات المتحدة الأميركية هي الوطن الأكبر للصورة كإنتاج وكثقافة وكاستهلاك، وإننا بالكاد نتعرف عليها إلا من خلال ما تبثه من صور عبر هوليوود ومؤسسات الإنتاج الإعلامي، فالانبهار الذي ينتابنا ينتفي ونحن نتكلم عن حضارة وثقافة الولايات المتحدة وسيطرتها على العالم وعلى الأمم، ولكنها في الحقيقة حضارة الصورة التي غرست في مخيالنا التائه والباحث عن القوة والبطولة المفقودة في ذواتنا.
لقد رسخت أميركا لصورتها الناصعة المملوءة بالقيم الإنسانية والحضارية وثقافة الحوار مع الآخر عبر السينما، يعتقد كل من مايك ميدافوي ونيثان غردلز أن معلومات الجمهور الأجنبي عن الولايات المتحدة تكون عرضياً عبر المطبخ المنظم الفخم في مسلسل الكوميدي leave is to Beaver، المعاملة العادلة في ظل القانون ونزاهة العدالة في فيلم دستة رجال غاضبين Twelve angry men والعلاقات الاعتيادية بين الشبان والفتيات في السلسلة الكوميدية الأصدقاء، وقد كنا لنصدق هذه الصورة النموذجية التي جعلت جاك داوسن وفيبريتسيو يصرخان مثل المجنونين في فيلم Titanic ويكرران العبارة I Go to amarica، ولكن هذه الصورة تتعرض للتعرية والتحقيق والانكشاف بذات اللغة التي خدعت بها أميركا العالم.
إننا أمام صور أكثر سواداً وقتامة تلك التي بثت في معتقلات غوانتانامو، صور القصف الوحشي على شوارع بغداد وأشلاء الأطفال والشيوخ في أفغانستان وسوريا وفي كل مكان تطأها القوات الأميركية.
سبق أن حدد ألبرت أينشتاين ثلاثة أسلحة تهدد البشرية، وكان من ضمنها القنبلة الإعلامية التي أصبحت أيضاً وسيلة من وسائل ردع التوحش الأميركي ولجم مغامراته؛ لهذا تسعى الدوائر الحكومية إلى السيطرة على وسائل إعلامها وتوجيهها بما يخدم المصالح الأميركية في الخارج، وهذا يدفعنا إلى الحديث عن حرية الإعلام في أميركا، وهل يستطيع الصحفي فعلاً تغطية الأحداث ونقلها للعالم دون تضييق وضغط؟
بكل تأكيد الأمر يجيب عليه بيتر أرنيت الصحفي الأميركي الحائز على جائزة جوزيف بوليتزر عن تغطيته لحرب فيتنام وحرب الخليج الثانية، الذي كان شاهداً على وحشية القوات الأميركية، وقام بنقل الصور الحية للقصف كمراسل لــCNN وهو ما عرضه للاتهام بالخيانة والتنكر للوطن وتشبيهات من قبيل بندكت أرنولد، دراكولا، زومبي، عميل صدام حسين.
وعلى العكس من ذلك كانت خسائر التحالف باهظة في الواقع الفعلي، ولكن قيادة الأركان انتقت من الصور ما كان خالياً من جنود قتلى أو دبابات محطمة، والسبب أيضاً أن الصحفيين منعوا من رؤية الحرب رأي العين؛ لهذا كتب الفيلسوف الفرنسي جان بودريار كتابه: حرب الخليج لم تقع، والتي يرى أنها كانت نسخة تلفزيونية مصورة، ففي الحقيقة كانت محسومة سلفاً، إنما كان الاستعراض في وسائل الإعلام بين زعيمين يتابعهما من خلفهما ملايين المشاهدين، يتعرضون إلى عالم الواقع المفرط الذي يعرض لهم ما يحدث فعلاً في الواقع الحقيقي والفعلي، وهو الأمر الذي تكرر في حرب الخليج الثالثة التي ظهرت فيها وسائل الإعلام وهي تهيئ الرأي العام العالمي لحرب شاملة ضد نظام مجنون ومتوحش يهدد البشرية بأسلحة الدمار الشامل، اضطهاد المعارضين وسحقهم، إبادة الأقليات الكردية، تهديد إسرائيل في كيانها ومجموعة كبيرة من العناوين العريضة التي ملأت الواشنطن بوست والنيويورك تايمز والنيوزويك وشيكاغو تريبيون.
ويجدر بنا أن نشير إلى أن الإعلام الأميركي يقع دائماً تحت الوصاية، سواء من الملّاك أو من وزارة الدفاع، وهو الأمر الذي يؤكده روبرت فيسك في الإندبندنت؛ حيث وصلت سيطرة وزارة الدفاع على شبكات CNN وCBA وAB إلى تواجد مسؤولين من مشاة البحرية بغرفة الأخبار من أجل مراقبة، والموافقة على التقارير الصادرة من المراسلين أو رفضها.
لقد كان الصراع الإعلامي في حرب الخليج الثالثة حاسماً ومركزياً، وقد استمر التضليل وتزييف الواقع وبطرق مختلفة وهوليوودية حتى بعد اجتياح القوات الأميركية لبغداد.
إن الهزيمة في معركة الصورة والوعي والأخبار والقدرة على صناعة واقع وهمي يبتلع الجمهور لهو المؤشر الأساسي على الهزيمة في الحرب الكبرى، وحرب العراق تمثل حجر الزاوية في تغيير الميديا العالمية حسب رأي مؤلفي كتاب: الإعلام الأميركي بعد العراق.
إنها معركة السيطرة على الوعي وتزييف الواقع كما يسميها الجنرال ديفيد باتريوس، والمنتصر هو الذي يصنع التاريخ والواقع والمستقبل من خلال فرض صورته وتعليب وتسليع القيم في محتوى إعلامي يخترق الزمان والمكان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.