قبل نحو 12 سنة، كنت في زيارة لقناة الجزيرة في قطر، واستضافني الأستاذ وضاح خنفر بمكتبه ساعة كاملة، تحدثنا فيها عن أمور كثيرة تتعلق بالقناة والعمل الإعلامي وسياسات التحرير والتحديات، وكذلك حول بعض الأفكار المتعلقة ببعض البرامج الحوارية. وكان لقاء رائعاً بالنسبة لي، حيث ألتقي شخصاً يقف على رأس هرمِ أكبر مؤسسة إعلامية في العالم العربي من حيث حجم التأثير، على أقل تقدير.
فاجأني الأستاذ وضاح بسؤال لم يخطر ببالي، وهو: كيف يمكن أن نُقنع المشاهدين (وعددهم بالملايين، وربما عشرات الملايين) بأن الإعلام لن يحل لهم مشاكلهم؟ كيف يمكن إقناع المشاهد بأن الإعلام هو أداة فقط، ولا يملك العصا السحرية لحل المشكلات وتفكيك الأزمات؟
قال لي حينها إن الناس يبعثون برسائل يطالبون الإعلام بالتركيز على قضايا معيّنة، ويتعلقون بأذيال المراسلين، طالبين منهم تصوير مشاهد معينة، والحديث عن أشخاص وأحداث، لعل ذلك يمكن أن يؤدي إلى إنهاء المعاناة، وتخفيف الآلام.
بداية، يمكن القول إن ما يدفع الناس للتشبث بالإعلام، والحرص على طرح قضاياهم، هو درجة الإحباط المتولدة لديهم من الأوضاع المأساوية والكارثية التي تحل بالمجتمعات، سواء على المستوى الجماعي أو على المستوى الفردي.
فعندما يعتدي رجال الأمن في بلد ما على أسرة، فإن أفرادها يتعلقون بالمراسل الصحفي إذا جاء إلى موقع الحدث، ويُغرقونه بتفاصيل ما حدث، ويطلبون منه تصوير أي شيء يعتقدون أنه يعزز روايتهم. وهذا التشبث يمثل الإحساس بأن الإعلام قد يوصّل صوتهم إلى من يمكن أن يرفع الأذى والظلم عنهم.
لكن الأمر قد يتجاوز ذلك إلى اعتقاد أن الإعلام بالفعل يملك العصا السحرية التي تحل المشكلات. فقدرة التلفزيون، على وجه الخصوص، على إحداث الانبهار لدى المشاهد، ورفع مستوى التوقعات لديه بناء على عنصر التضخيم والتهويل الذي يمتلكه التلفزيون- تغرس في المشاهد إحساساً بأن كل القضايا التي تصل إلى التلفزيون، هي بالتأكيد في طريقها للوصول إلى صناع القرار وإلى الرأي العام، وهي -بلا شك- في طريقها إلى الحل.
لكن القاعدة التي تحكم الإعلام، هي أنه يمثل انعكاساً للواقع، وهو مرآة لما يحدث في المجتمع. وبصرف النظر عن عمومية هذه العبارة، وعن قدرة الإعلام على التركيز على قضايا وإهمال قضايا أخرى، إلا أن الإعلام لا يصنع حدثاً، ولا يخلق صورة من فراغ.
بل إنه يتلمس ما يحدث على أرض الواقع، ويستفيد منه في صناعة الرسالة. ولذلك، فإن قدرة الإعلام على التأثير لا يمكن إنكارها. وهذا يعني أن الإعلام يؤثر ويتأثر في آن واحد.
إن الرهان على أن الإعلام سيغير قناعات الناس، ويحل القضايا والمشاكل المحلية والعالمية، أمر ليس في مكانه. ولكن هذا لا يعني ضرورة اهتمام الإعلام بقضايا معينة، والدفع باتجاه حلها. ولكنه يحتاج، وبشكل موازٍ، إلى وقائع على الأرض لكي تكون مادته، وحتى يتمكن من إيصال الرسالة إلى الجمهور بالشكل الذي يريده الجمهور.
أما أن نبقى نردد أن الإعلام يجب أن يغيّر، فإن هذا يعني أن نحمّل الإعلام أكثر مما يحتمل، وأن نعطي لتأثيره أهمية أكثر مما هي في الواقع.
وربما يقول قائل إن المعادلة تغيرت مع ظهور الإعلام الجديد. وهذا صحيح، وربما نُفرد له مساحة أخرى في وقت لاحق.ز
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.